الكعبة المشرفة اول بيت وضع للناس - محمود شلبي

الكعبة المشرفة 
اول بيت وضع للناس 
اضغط على الصورة للتكبير 
click on photo to see it big 

[1]
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ     حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ  
[ آل عمران 96  - 97 ]



Tanslation :

Holy Quran - Surat Al-i'Imran - Verses 96- 97

In the name of ALLAH , the Almighty God , the Most Compassionate , the Most Merciful .

96: The first House of God to be set up for men was at Bakkah (Mecca) the blessed, a guidance for the people of the world.

97: It contains clear signs, and the spot where Abraham had stood. And anyone who enters it will
find security. And whosoever can afford should visit the House on a pilgrimage as duty to God. Whosoever denies, should remember that God is independent of the peoples of the world.


[2]
بسم الله الرحمن الرحيم 
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)ه
[ الحج 26 – 30 ]


Translation :

Holy Quran - Surat Al-Hajj - Verses 26-30

In the name of ALLAH , the Almighty God , the Most Compassionate , the Most Merciful .

26: When We chose the site of the House for Abraham (We said:) "Associate no one with Me, and
clean My House for those who will circumambulate it, stand (in reverence), and bow in homage.
27: Announce the Pilgrimage to the people. They will come to you on foot and riding along distant roads on lean and slender beasts,
28: In order to reach the place of advantage for them, and to pronounce the name of God on appointed days over cattle He has given them for food; then eat of the meat and feed the needy and the poor.
29: Let them then attend to their persons and complete the rites of pilgrimage, fulfil their vows and circuit round the ancient House.
30: Apart from this, whoever respects the sacred ordinances of God, will find a better reward for him with his Lord. You are allowed to eat all cattle except those already mentioned to you. Avoid the repugnance of idols, and false and frivolous talk.


[3]
بسم الله الرحمن الرحيم 
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (128)  فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا 
هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ 
[ التوبة 128 – 129 ]


Translation :

Holy Quran -Surat At-Tauba - Verses 128-129

In the name of ALLAH , the Almighty God , the Most Compassionate , the Most Merciful .

128: To you has come an Apostle from among you. Any sorrow that befalls you weighs upon him; He is eager for your happiness, full of concern for the faithful, compassionate and kind.
129: So, if they turn away, say to them: "God is sufficient for me. There is no God but He; I depend on Him alone, the Lord of the glorious Throne."


[4]
بسم الله الرحمن الرحيم 
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (164)
[ آل عمران ]


Translation:

Holy Quran - Surat Al-i'Imran - Verses 164

164: God has favoured the faithful by sending an apostle to them from among themselves, who recites to them His messages, and reforms and teaches them the Law and the judgement, for they were clearly in error before.



شرح وتفسير الايات الكريمة :

اولا : الايات  من سورة ال عمران :
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96)  فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ 
[ آل عمران 96 - 97 ]

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96)


قال الفخر الرازي ما ملخصه: في اتصال هاتين الآيتين بما قبلهما وجوه:

الأول: أن المراد منهما الجواب عن شبهة أخرى من شبهات اليهود في إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وذلك لأنه لما حولت القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوته وقالوا: إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال، وذلك لأنه وضع قبل الكعبة وهو أرض المحشر، وقبلة جملة الأنبياء، وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة إلى الكعبة باطلا، فأجاب الله عنه بقوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ فبين- سبحانه- أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف فكان جعلها قبلة أولى» .

والمراد بالأولية أنه أول بيت وضعه الله لعبادته في الأرض، وقيل المراد بها كونه أولا في الوضع وفي البناء، ورووا في ذلك آثارا ليس فيها ما يعتمد عليه.

وبكة: لغة في مكة عند الأكثرين، والباء والميم تعقب إحداهما الأخرى كثيرا، ومنه النميط والنبيط فهما اسم لموضع. وقيل هما متغايران: فبكة موضع المسجد ومكة اسم البلد بأسرها.

وأصل كلمة بكة من البك وهو الازدحام. يقال تباك القوم إذا تزاحموا، وكأنها سميت بذلك لازدحام الحجيج فيها. والبك أيضا دق العنق، وكأنها سميت بكة لأن الجبابرة تندق أعناقهم إذا أرادوها بسوء. وقيل إنها مأخوذة من بكأت الناقة أو الشاة إذا قل لبنها، وكأنها إنما سميت بذلك لقلة مائها وخصبها.

والمعنى: إن أول بيت وضعه الله- تعالى- للناس في الأرض ليكون متعبدا لهم، هو البيت الحرام الذي بمكة، حيث يزدحم الناس أثناء طوافهم حوله، وقد أتوا إليه رجالا وعلى كل ضامر من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم.

روى الشيخان عن أبى ذر قال: «قلت يا رسول الله: أى مسجد وضع في الأرض أول؟

قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أى؟ قال المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم قال: حيثما أدركتك الصلاة فصل. والأرض لك مسجد» .
قالوا: وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد منه فقال: معلوم أن سليمان بن داود هو الذي بنى المسجد الأقصى، والذي بنى المسجد الحرام هو إبراهيم وابنه إسماعيل، وبينهما وبين سليمان أكثر من ألف سنة فكيف قال صلّى الله عليه وسلّم: إن بين بناء المسجدين أربعين سنة!
والجواب أن الوضع غير البناء، فالذي أسس المسجد الأقصى ووضعه في الأرض بأمر الله سيدنا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وبين إبراهيم ويعقوب هذه المدة التي جاءت في الحديث، أما سليمان فلم يكن مؤسسا للمسجد الأقصى أو واضعا له وإنما كان مجددا فلا إشكال ولا منافاة.
وإذن فالبيت الحرام أسبق بناء من المسجد الأقصى، وأجمع منه للديانات السماوية، وهو- أى البيت الحرام- أول بيت جعل الله الحج إليه عبادة مفروضة على كل قادر على الحج، وجعل الطواف حوله عبادة، وتقبيل الحجر الأسود الذي هو ضمن بنائه عبادة.. ولا يوجد بيت سواه في الأرض له من المزايا والخصائص ما لهذا البيت الحرام.
وبذلك ثبت كذب اليهود في دعواهم أن المسجد الأقصى أفضل من المسجد الحرام، وأن في تحول الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الكعبة في صلاته مخالفة للأنبياء قبله.
ثم مدح الله- تعالى- بيته بكونه مُبارَكاً أى كثير الخير دائمه، من البركة وهي النماء والزيادة والدوام.
أى أن هذا البيت كثير الخير والنفع لمن حجه أو اعتمره أو اعتكف فيه، أو طاف حوله، بسبب مضاعفة الأجر، وإجابة الدعاء، وتكفير الخطايا لمن قصده بإيمان وإخلاص وطاعة الله رب العالمين.
وإن هذا البيت في الوقت ذاته وفير البركات المادية والمعنوية.
فمن بركاته المادية: قدوم الناس إليه من مشارق الأرض ومغاربها ومعهم خيرات الأرض، يقدمونها على سبيل تبادل المنفعة تارة وعلى سبيل الصدقة تارة أخرى لمن يسكنون حول هذا البيت الحرام، إجابة لدعوة سيدنا إبراهيم حيث قال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ومن بركاته المعنوية: أنه مكان لأكبر عبادة جامعة للمسلمين وهي فريضة الحج، وإليه يتجه المسلمون في صلاتهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأماكنهم.
وقوله مُبارَكاً حال من الضمير في «وضع» .
ثم مدحه بأنه هُدىً لِلْعالَمِينَ أى بذاته مصدر هداية للعالمين، لأنه قبلتهم ومتعبدهم، وفي استقباله توجيه للقلوب والعقول إلى الخير وإلى ما يوصلهم إلى رضا الله وجنته.
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)


ثم مدحه- ثالثا- بقوله: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ أى فيه علامات ظاهرات، ودلائل واضحات تدل على شرف منزلته، وعلو مكانته.

وهذه الجملة الكريمة مستأنفة لبيان وتفسير بركته وهداه.

ثم بين- سبحانه- بعض هذه الآيات البينات الدالة على عظمه وشرفه فقال: مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً.

فالآية الأولى الدالة على عظم وشرف البيت الحرام مَقامُ إِبْراهِيمَ أى المقام المعروف بهذا الاسم. وهو الموضع الذي كان يقوم فيه إبراهيم تجاه الكعبة لعبادة الله- تعالى- ولإتمام بناء الكعبة ومعنى أن في البيت مقام إبراهيم أى أنه في فنائه ومتصل به.

قال ابن كثير: عن جابر- رضى الله عنه- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين. والمراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل بهذا الحجر ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار ...

ثم قال: وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك. وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى ناحية المشرق حيث هو الآن. ليتمكن الطائفون من الطواف، وليصلى المصلون عنده دون تشويش عليهم من الطائفين .

وقوله: مَقامُ إِبْراهِيمَ مبتدأ محذوف الخبر أى مقام إبراهيم منها أى من هذه الآيات البينات. أو خبر لمبتدأ محذوف أى فيه آيات بينات أحدها مقام إبراهيم.

وقد رجح ابن جرير أن قوله- تعالى- مَقامُ إِبْراهِيمَ هو بعض الآيات البينات التي في البيت الحرام فقال: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: الآيات البينات منهن مقام إبراهيم. وهو قول قتادة ومجاهد الذي رواه معمر عنهما فيكون الكلام مرادا فيه منهن فترك ذكره اكتفاء بدلالة الكلام عليها. فإن قال قائل: فهذا المقام من الآيات البينات فما سائر الآيات التي من أجلها قيل آياتٌ بَيِّناتٌ؟ قيل: منهن المقام، ومنهن الحجر، ومنهن الحطيم» .
وقال ابن عطية: والراجح عندي أن المقام وأمن الداخلين جعلا مثالا لما في حرم الله من الآيات، وخصا بالذكر لعظمهما وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم» .
وأما الآية الثانية التي تدل على فضل هذا البيت وشرفه فقد بينها القرآن بقوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً.
أى من التجأ إليه أمن من التعرض له بالأذى أو القتل قال- تعالى-: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ وفي ذلك إجابة لسيدنا إبراهيم حيث قال- كما حكى القرآن عنه-: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ولا شك أن في أمن من دخل هذا البيت أكبر آية على تعظيمه وعلى علو مكانته عند الله لأنه موضع أمان الناس في بيئة تغرى بالاعتداء لخلوها من الزرع والنبات.
وفي الصحيحين- واللفظ لمسلم- عن أبى شريح العدوى أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث لمكة- يعنى لقتال عبد الله بن الزبير-: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قال به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغد من يوم الفتح، - سمعته أذناى ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي- حين تكلم به- : إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها- أى أخذ فيه بالرخصة- فقولوا له: إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب.
فقيل لأبى شريح: ما قال لك عمرو؟ فقال أبو شريح: قال لي يا أبا شريح أنا أعلم بذلك منك. إن الحرم لا يعيذ عاصيا- أى لا يجيره ولا يعصم دمه- ولا فارا بدم- أى أن الحرم لا يجير إنسانا هاربا إليه لسبب من الأسباب الموجبة للقتل- ولا فارا بخربة- أى بسبب سرقة أو خيانة .
ولقد كان أهل الجاهلية يعظمون المسجد الحرام- وخصوصا أهل مكة- فلما جاء الإسلام أقر له هذه الميزة وزكاها، ووضع لها الضوابط والأحكام التي تضمن استعمالها في الوجوه التي شرعها الله.
فقد اتفق الفقهاء على أن من جنى في الحرم جناية فهو مأخوذ بجنايته سواء أكانت في النفس أم فيما دونها.
واختلفوا فيمن جنى في غير الحرم ثم لاذ إليه. فقال أبو حنيفة وابن حنبل: إذا قتل في غير الحرم ثم دخل الحرم لا يقتص منه ما دام فيه، ولكن لا يجالس ولا يعامل ولا يؤاكل إلى أن يخرج منه فيقتص منه. وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم ثم دخل الحرم اقتص منه.
وقال مالك والشافعى يقتص منه في الحرم لذلك كله كما يقتص منه في الحل.
ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفقه.
ثم أخبر- سبحانه- عن وجوب الحج على كل قادر عليه فقال: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.
أى أن الله- تعالى- فرض على الناس أن يحجوا بيته في أوقات معينة وبكيفية مخصوصة متى كان في استطاعتهم أداء هذه الفريضة.
وَمَنْ كَفَرَ أى من جحد فرضية الحج وأنكرها، ولم يؤدها مع استطاعته وقدرته على أدائها فإن الله غنى عنه وعن حجه وعن الناس جميعا.
قال صاحب الكشاف: وفي هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد منها قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ يعنى أنه حق واجب الله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته. ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه من استطاع إليه سبيلا وفيه ضربان من التأكيد:
أحدهما: أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له.
والثاني: أن الإيضاح بعد الإبهام، والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين.
ومنها قوله: وَمَنْ كَفَرَ مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك الحج، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: من مات ولم يحج فليمت إن شاء الله يهوديا أو نصرانيا ومنها ذكر الاستغناء عنه، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان. ومنها قوله: عَنِ الْعالَمِينَ ولم يقل عنه، لأن فيه الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ولأنه يدل على الاستغناء الكامل، فكان أدل على عظم السخط .
وقوله: وَاللَّهُ خبر مقدم متعلق بمحذوف أى واجب. عَلَى النَّاسِ متعلق بهذا المحذوف. وقوله: حِجُّ الْبَيْتِ مبتدأ مؤخر.
والناس عام مخصوص بالمستطيع، وقد خصص ببدل البعض في قوله: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا إذ هذه الجملة بدل من الناس بدل البعض من الكل. والضمير في البدل مقدر أى من استطاع منهم إليه سبيلا.
و «من» في قوله: وَمَنْ كَفَرَ يحتمل أن تكون شرطية وهو الظاهر، وأن تكون موصولة، وعلى الاحتمالين استغنى فيما بعد الفاء عن الرابط بإقامة الظاهر مقام المضمر إذ الأصل ومن كفر فإن الله غنى عنه فاستغنى بالظاهر عن المضمر.
قال ابن كثير: والجمهور يرى أن هذه الآية هي آية وجوب الحج. وقيل بل هي آية وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ والأول أظهر. وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقوائمه، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع فعن أبى هريرة قال: خطبنا رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فقال: «يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا. فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» .
وعن ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: «قام رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما السبيل يا رسول الله، فقال: الزاد والراحلة» :
وبذلك تكون هاتان الآيتان والآيات التي قبلهما قد ردت على اليهود في دعواهم أن ما حرمه الله عليهم من طيبات لم يكن عقوبة لهم بسبب ظلمهم وبغيهم، وكذبتهم في دعواهم أن بيت المقدس أفضل من المسجد الحرام.
وقد اشتمل هذا الرد على ما يثبت افتراءهم من واقع التاريخ، فقد أمر الله- تعالى- النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يطالبهم بإحضار التوراة إن كانوا صادقين في دعواهم، فبهتوا وانقلبوا صاغرين، وأثبت القرآن أن البيت الحرام أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله، فهو يسبق بيت المقدس في أولوية الشرف والزمان. وإذن فجدال اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الأمور ما هو إلا نوع من عنادهم وجحودهم للحق، والمعاند والجاحد لا ينفع معهما دليل أو برهان.
وبعد هذا الرد المفحم من القرآن على اليهود في هاتين القضيتين- قضية ما حرم عليهم من الأطعمة وقضية نزاعهم في أفضلية البيت الحرام- بعد كل ذلك ساق القرآن طرفا من مسالكهم الخبيثة لكيد الإسلام والمسلمين عن طريق محاولتهم الدس والوقيعة وإثارة الفتنة بين المؤمنين. وقد حذر الله المؤمنين من شرورهم بعد أن وبخ اليهود على مكرهم، وتوعدهم بسوء المصير. استمع إلى القرآن وهو يسوق هذه المعاني بأسلوبه الحكيم فيقول:

ثانيا : تفسير الايات من سورة الحج :

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
[ الحج 26 – 30 ]

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)

ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن بناء البيت وتطهيره فقال- تعالى-: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً....

وبوأنا من التبوؤ بمعنى النزول في المكان. يقال: بوأته منزلا أى: أنزلته فيه، وهيأته له، ومكنته منه.

والمعنى: واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن هيأنا لنبينا إبراهيم مكان بيتنا الحرام، وأرشدناه إليه، لكي يبنيه بأمرنا، ليكون مثابة للناس وأمنا.

قال بعض العلماء: والمفسرون يقولون بوأه له، وأراه إياه، بسبب ريح تسمى الخجوج، كنست ما فوق الأساس: حتى ظهر الأساس الأول الذي كان مندرسا، فبناه إبراهيم وإسماعيل عليه ... وأن محل البيت كان مربض غنم لرجل من جرهم.

وغاية ما دل عليه القرآن: أن الله بوأ مكانه لإبراهيم، فهيأه له، وعرفه إياه ليبنيه في محله، وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن أول من بناه إبراهيم ولم يبن قبله.
وظاهر قوله- تعالى- على لسان إبراهيم: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ... يدل على أنه كان مبنيا واندرس كما يدل عليه- أيضا- قوله هنا مَكانَ الْبَيْتِ لأنه يدل على أن له مكانا سابقا كان معروفا.
و «أن» في قوله- تعالى-: أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً مفسرة، والتفسير- كما يقول الآلوسى- باعتبار أن التبوئة من أجل العبادة، فكأنه قيل: أمرنا إبراهيم بالعبادة، وذلك فيه معنى القول دون حروفه، أو لأن بوأناه بمعنى قلنا له تبوأ.
والمعنى: واذكر- أيها المخاطب- وقت أن هيأنا لإبراهيم- عليه السلام- مكان بيتنا الحرام، وأوصيناه بعدم الإشراك بنا، وبإخلاص العبادة لنا، كما أوصيناه- أيضا- بأن يطهر هذا البيت من الأرجاس الحسية والمعنوية الشاملة للكفر والبدع والضلالات والنجاسات، وأن يجعله مهيأ للطائفين به، وللقائمين فيه لأداء فريضة الصلاة.

قال الشوكانى: والمراد بالقائمين في قوله: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ المصلون..
وذكر الرُّكَّعِ السُّجُودِ بعده، لبيان أركان الصلاة دلالة على عظم شأن هذه العبادة، وقرن الطواف بالصلاة، لأنهما لا يشرعان إلا في البيت، فالطواف عنده والصلاة إليه.
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة، أنه لا يجوز أن يترك عند بيت الله الحرام، قذر من الأقذار ولا نجس من الأنجاس المعنوية ولا الحسية، فلا يترك فيه أحد يرتكب مالا يرضى الله، ولا أحد يلوثه بقذر من النجاسات.


وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)


ثم ذكر- سبحانه- ما أمر به نبيه إبراهيم بعد أن بوأه مكان البيت فقال: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، يَأْتُوكَ رِجالًا. وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ.

والآذان: الإعلام. و «رجالا» أى: مشاة على أرجلهم، جمع راجل.

يقال: رجل بزنة فرح فلان يرجل فهو راجل إذا لم يكن معه ما يركبه.

والضامر: البعير المهزول من طول السفر، وهو اسم فاعل من ضمر- بزنة قعد- يضمر ضمورا فهو ضامر، إذا أصابه الهزال والتعب.
وجملة «يأتين من كل فج عميق» صفة لقوله «كل» ، والجمع باعتبار المعنى. كأنه قيل:
وركبانا على ضوامر من كل طريق بعيد..

والفج في الأصل: الفجوة بين جبلين، ويستعمل في الطريق المتسع. والمراد به هنا: مطلق الطريق وجمعه فجاج.

والعميق: البعيد، مأخوذ من العمق بمعنى البعد، ومنه قولهم: بئر عميقة، أى: بعيدة الغور.

والمعنى: وأعلم يا إبراهيم الناس بفريضة الحج يأتوك مسرعين مشاة على أقدامهم، ويأتوك راكبين على دوابهم المهزولة، من كل مكان بعيد.
قال ابن كثير: أى: ناد- يا إبراهيم- في الناس داعيا إياهم إلى الحج الى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذكر أنه قال: يا رب، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا يصل إليهم؟
فقيل: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل:
على أبى قبيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: «لبيك اللهم لبيك».
وقيل: إن الخطاب في قوله- تعالى-: وَأَذِّنْ ... للرسول صلّى الله عليه وسلّم وأن الكلام عن إبراهيم- عليه السلام- قد انتهى عند قوله- تعالى-: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ.
وجمهور المفسرين على أن الخطاب لإبراهيم- عليه السلام- لأن سياق الآيات يدل عليه، ولأن التوافد على هذا البيت موجود منذ عهد إبراهيم.
وما يزال وعد الله يتحقق منذ هذا العهد الى اليوم وإلى الغد، وما تزال أفئدة ملايين الناس تهوى إليه، وقلوبهم تنشرح لرؤيته، وتسعد بالطواف من حوله ...


لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)


وقوله- سبحانه-: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ متعلق بقوله: يَأْتُوكَ.

أى: يأتيك الناس راجلين وراكبين من كل مكان بعيد، ليشهدوا وليحصلوا منافع عظيمة لهم في دينهم وفي دنياهم.

ومن مظاهر منافعهم الدينية: غفران ذنوبهم، وإجابة دعائهم، ورضا الله- تعالى- عنهم.

ومن مظاهر منافعهم الدنيوية: اجتماعهم في هذا المكان الطاهر، وتعارفهم وتعاونهم على البر والتقوى، وتبادلهم المنافع فيما بينهم عن طريق البيع والشراء وغير ذلك من أنواع المعاملات التي أحلها الله- تعالى-.

وجاء لفظ «منافع» بصيغة التنكير، للتعميم والتعظيم والتكثير. أى: منافع عظيمة وشاملة لأمور الدين والدنيا، وليس في الإمكان تحديدها لكثرتها، وقوله وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ معطوف على قوله لِيَشْهَدُوا.

والمراد بالأيام المعلومات: الأيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة، أو هي أيام النحر، أو يوم العيد وأيام التشريق.

والمراد ببهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم.

أى: ليشهدوا منافع لهم، وليكثروا من ذكر الله ومن طاعته في تلك الأيام المباركة.
وليشكروه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام التي يتقربون إليه- سبحانه- عن طريق ذبحها وإراقة دمائها، واستجابة لأمره- عز وجل-.
وقوله- سبحانه-: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ إرشاد منه- تعالى- إلى كيفية التصرف فيها بعد ذبحها.
أى: فكلوا من هذه البهيمة بعد ذبحها، وأطعموا منها الإنسان البائس، أى: الذي أصابه بؤس ومكروه بجانب فقره واحتياجه.
قال الآلوسى: والأمر في قوله فَكُلُوا مِنْها ... للإباحة بناء على أن الأكل كان منهيا عنه شرعا، وقد قالوا: إن الأمر بعد المنع يقتضى الإباحة ويدل على سبق النهى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحى فكلوا منها وادخروا» .
وقيل: لأن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون فيه، أو للندب على مواساة الفقراء ومساواتهم في الأكل منها

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)


ثم بين- سبحانه- ما يفعلونه بعد حلهم وخروجهم من الإحرام فقال: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ، وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ.

والمراد بالقضاء هنا: الإزالة، وأصله القطع والفصل، فأريد به الإزالة على سبيل المجاز.

والتفث: الوسخ والقذر، كطول الشعر والأظفار يقال: تفث فلان- كفرح- يتفث تفثا فهو تفث، إذا ترك الاغتسال والتطيب والتنظيف فأصابته الأوساخ.

والمراد بالطواف هنا: طواف الإفاضة، الذي هو أحد أركان الحج، وبه يتم التحلل.

والعتيق: القديم حيث إنه أول بيت وضع لعبادة الله في الأرض، وقيل سمى بالعتيق لأن الله- تعالى- أعتقه من أن يتسلط عليه جبار فيهدمه أو يخربه.

والمعنى: ثم بعد حلهم وبعد الإتيان بما عليهم من مناسك. فليزيلوا عنهم أدرانهم وأوساخهم، وليوفوا نذورهم التي نذروها لله- تعالى- في حجهم، وليطوفوا طواف الإفاضة، بهذا البيت القديم الذي جعله الله- تعالى- أول بيت لعبادته، وصانه من اعتداء كل جبار أثيم.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد توعدت كل من يصد الناس عن هذا البيت بأشد ألوان الوعيد، وبينت أن الناس فيه سواء، وتحدثت عن جانب من فضله- سبحانه- على نبيه إبراهيم- عليه السلام- حيث أرشده إلى مكان هذا البناء، وشرفه بتهيئته ليكون أول مكان لعبادته- تعالى-، وأمره بأن ينادى في الناس بالحج إليه، ليشهدوا منافع عظيمة لهم.

ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك الى الحديث عن الذين يعظمون حرمات الله، وعما أحله الله لعباده من الأنعام، وعن سوء عاقبة من يشرك بالله، فقال- تعالى-:

ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)


واسم الإشارة ذلِكَ في قوله: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ ... يؤتى به في مثل هذا التركيب للفصل بين كلامين، والمشهور في مثل هذا التركيب الإتيان بلفظ «هذا» كما في قوله- تعالى-: هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ .

وجيء هنا بلفظ ذلك للإشعار بتعظيم شأن المتحدث عنه، وعلو منزلته، وهو يعود إلى المذكور من تهيئة مكان البيت لإبراهيم، وأمره بتطهيره ... إلخ.

قال صاحب الكشاف: قوله ذلِكَ خبر مبتدأ محذوف أى: الأمر والشأن ذلك، كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا، وقد كان كذا .

والحرمات: جمع حرمة. والحرمة كل ما أمر الله- تعالى- باحترامه، ونهى عن قوله أو فعله، ويدخل في ذلك دخولا أوليا ما يتعلق بمناسك الحج كتحريم الرفث والفسوق والجدال والصيد، وتعظيم هذه الحرمات يكون بالعلم بوجوب مراعاتها، وبالعمل بمقتضى هذا العلم.

والمعنى: ذلك الذي ذكرناه لكم عن البيت الحرام وعن مناسك الحج، هو جانب من أحكام الله- تعالى- في هذا الشأن فاتبعوها، والحال أن من يعظم حرمات الله- تعالى- بأن يترك ملابستها واقترافها، فهو أى: هذا التعظيم، خير له عند ربه. إذ بسبب هذا التعظيم لتلك الحرمات ينال رضا ربه وثوابه.

وقد جاء النهى في هذه الجملة عن فعل هذه الحرمات بأبلغ أسلوب حيث عبر عن اجتنابها بالتعظيم وبأفعل التفضيل وهو لفظ «خير» وبإضافتها إلى ذاته.

فكأنه- سبحانه- يقول: إذا كان ترك هذا التعظيم لحرمات الله يؤدى إلى حصولكم على شيء من المتاع الدنيوي الزائل، فإن الاستمساك بهذا التعظيم أفضل من ذلك بكثير عند ربكم وخالقكم، فكونوا عقلاء ولا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.

ثم بين- سبحانه- بعض الأحكام التي تتعلق بالأنعام وهي الإبل والبقر والغنم فقال:
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ.
أى: وأحل الله- تعالى- لكم فضلا منه ورحمة ذبح الأنعام وأكلها إلا ما يتلى عليكم تحريم ذبحه وأكله فاجتنبوه.
وهذا الإجمال هنا، قد جاء ما فصله قبل ذلك في سورة الأنعام في قوله- تعالى-: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ.
قال بعض العلماء: ثم إنه ليس المقصود بما يتلى، ما ينزل في المستقبل، كما يعطيه ظاهر الفعل المضارع، بل المراد ما سبق نزوله مما يدل على حرمة الميتة وما أهل لغير الله به. أو ما يدل على حرمة الصيد في الحرم أو حالة الإحرام.
وعلى هذا يكون السر في التعبير بالمضارع، التنبيه إلى أن ذلك المتلو ينبغي استحضاره والالتفات إليه.. والجملة معترضة لدفع ما عساه يقع في الوهم من أن تعظيم حرمات الله في الحج قد يقضى باجتناب الأنعام، كما قضى باجتناب الصيد .
ثم أمرهم- سبحانه- باجتناب ما يغضبه، وحضهم على الثبات على الدين الحق فقال- تعالى-: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ والفاء في قوله: فَاجْتَنِبُوا هي الفصيحة. والرجس: الشيء المستقذر الذي تعافه النفوس. ومَنْ في قوله مِنَ الْأَوْثانِ بيانية، والأوثان: الأصنام. يدخل في حكمها ومعناها عبادة كل معبود من دون الله- تعالى- كائنا من كان.
وسماها- سبحانه- رجسا، زيادة في تقبيحها وفي التنفير منها.
والزور: الكذب والباطل وكل قول مائل عن الحق فهو زور، لأن أصل المادة التي هي الزور من الازورار بمعنى الميل والاعوجاج، ومنه قوله- تعالى-: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ أى: تميل.
وقوله حُنَفاءَ جمع حنيف وهو المائل عن الأديان الباطلة الى الدين الحق.
والمعنى: مادام الأمر كما ذكرت لكم، فاجتنبوا- أيها الناس عبادة الأوثان أو تعظيمها، واجتنبوا- أيضا- القول المائل عن الحق، وليكن شأنكم وحالكم الثبات على الدين الحق، وعلى إخلاص العبادة لله- تعالى- الذي خلقكم، وخلق كل شيء.
وهذه الجملة الكريمة مؤكدة لما سبق من وجوب تعظيم حرمات الله، ومن وجوب التمسك بما أحله الله والبعد عما حرمه.
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ تعميم بعد تخصيص، فإن عبادة الأوثان رأس الزور، لما فيها من ادعاء الاستحقاق، كأنه- تعالى- لما حث على تعظيم الحرمات، أتبع ذلك بما فيه رد لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب ونحوهما، والافتراء على الله- تعالى- بأنه حكم بذلك. ولم يعطف قول الزور على الرجس، بل أعاد العامل لمزيد الاعتناء. والإضافة بيانية.. .

ثالثا : تفسير الايات الكريمة من سورة التوبة  :
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (128)  فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا 
هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
[ التوبة 128 – 129 ]

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (128)

يمتن (تعالى‏) على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الأمي الذي من أنفسهم، يعرفون حاله، ويتمكنون من الأخذ عنه، ولا يأنفون عن الانقياد له، وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غاية النصح لهم، والسعي في مصالحهم‏.‏
(‏عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ‏) أي‏:‏ يشق عليه الأمر الذي يشق عليكم ويعنتكم‏.‏

(‏حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ‏)‏ فيحب لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشر، ويسعى جهده في تنفيركم عنه‏.‏ ‏‏بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏‏ أي‏:‏ شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم‏.‏

ولهذا كان حقه مقدمًا على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به، وتعظيمه، وتعزيره، وتوقيره
يقول تعالى ممتنا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم ، أي : من جنسهم وعلى لغتهم ، كما قال إبراهيم عليه السلام: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) ( البقرة :129 ) وقال تعالى : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) [ آل عمران : 164 ] ، وقال تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) أي : منكم وبلغتكم ، كما قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ، والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى : إن الله بعث فينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصفته ، ومدخله ومخرجه ، وصدقه وأمانته ، وذكر الحديث .
وقال سفيان بن عيينة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه في قوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) قال : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية ، وقال صلى الله عليه وسلم : " خرجت من نكاح ، ولم أخرج من سفاح " .
وقد وصل هذا من وجه آخر ، كما قال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي في كتابه " الفاصل بين الراوي والواعي " : حدثنا أبو أحمد يوسف بن هارون بن زياد ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال : أشهد على أبي لحدثني ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي لم يمسني من سفاح الجاهلية شيء " .
وقوله : ( عزيز عليه ما عنتم ) أي : يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها ؛ ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال : " بعثت بالحنيفية السمحة " وفي الصحيح : " إن هذا الدين يسر " وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة ، يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه .
( حريص عليكم ) أي : على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم .
قال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن فطر ، عن أبي الطفيل ، عن أبي ذر قال . تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علما - قال : وقال صلى الله عليه وسلم : " ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا [ أبو ] قطن ، حدثنا المسعودي ، عن الحسن بن سعد ، عن عبدة النهدي ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع ، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار ، كتهافت الفراش ، أو الذباب " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ملكان ، فيما يرى النائم ، فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه . فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : اضرب مثل هذا ومثل أمته . فقال : إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به ، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة فقال : أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة ، وحياضا رواء أتتبعوني ؟ فقالوا : نعم . قال : فانطلق بهم ، فأوردهم رياضا معشبة ، وحياضا رواء ، فأكلوا وشربوا وسمنوا ، فقال لهم : ألم ألقكم على تلك الحال ، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني ؟ فقالوا : بلى . قال : فإن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه ، وحياضا هي أروى من هذه ، فاتبعوني . فقالت طائفة : صدق ، والله لنتبعنه وقالت طائفة : قد رضينا بهذا نقيم عليه .
وقال البزار : حدثنا سلمة بن شبيب وأحمد بن منصور قالا حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي ، عن عكرمة عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ؛ أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعينه في شيء - قال عكرمة : أراه قال : " في دم " - فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ثم قال : " أحسنت إليك ؟ " قال الأعرابي : لا ولا أجملت . فغضب بعض المسلمين ، وهموا أن يقوموا إليه ، فأشار رسول الله إليهم : أن كفوا . فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ إلى منزله ، دعا الأعرابي إلى البيت ، فقال له : " إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك ، فقلت ما قلت " فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، وقال : " أحسنت إليك ؟ " فقال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنك جئتنا تسألنا فأعطيناك ، فقلت ما قلت ، وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شيء ، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي ، حتى يذهب عن صدورهم " . قال : نعم . فلما جاء الأعرابي . قال إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه ، فقال ما قال ، وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي ، [ كذلك يا أعرابي ؟ ] قال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة ، فشردت عليه ، فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا . فقال لهم صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي ، فأنا أرفق بها ، وأعلم بها . فتوجه إليها وأخذ لها من قتام الأرض ، ودعاها حتى جاءت واستجابت ، وشد عليها رحلها وإنه لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار " . ثم قال البزار : لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه .
قلت : وهو ضعيف بحال إبراهيم بن الحكم بن أبان ، والله أعلم .
وقوله : ( بالمؤمنين رءوف رحيم ) كما قال تعالى : ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون . وتوكل على العزيز الرحيم [ الشعراء : 215 - 217 ]
وهكذا أمره تعالى .
فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
فان آمنوا، فذلك حظهم وتوفيقهم، وإن ‏( تَوَلَّوا‏ ) عن الإيمان والعمل، فامض على سبيلك، ولا تزل في دعوتك، وقل( حَسْبِيَ اللَّهُ‏ ) أي‏:‏ الله كافيَّ في جميع ما أهمني،( لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي‏:‏ لا معبود بحق سواه‏.‏
‏( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏) أي‏:‏ اعتمدت ووثقت به، في جلب ما ينفع، ودفع ما يضر، ‏{‏وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏}‏ الذي هو أعظم المخلوقات‏.‏ وإذا كان رب العرش العظيم، الذي وسع المخلوقات، كان ربا لما دونه من باب أولى وأحرى‏.‏
تم تفسير سورة التوبة بعون اللّه ومنه فلله الحمد أولا وآخرا وظاهرا وباطنا‏.‏



رابعا : تفسير الاية الكريمة من سورة ال عمران ( تفسير السعدي )

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (164) [ آل عمران ]
هذه المنة التي امتن الله بها على عباده، أكبر النعم، بل أصلها، وهي الامتنان عليهم بهذا الرسول الكريم الذي أنقذهم الله به من الضلالة، وعصمهم به من الهلكة، فقال: { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهميعرفون نسبه، وحاله، ولسانه، من قومهم وقبيلتهم، ناصحا لهم، مشفقا عليهم، يتلو عليهم آيات الله، يعلمهم ألفاظها ومعانيها. { ويزكيهم }من الشرك، والمعاصي، والرذائل، وسائر مساوئ الأخلاق. و { يعلمهم الكتابإما جنس الكتاب الذي هو القرآن، فيكون قوله: { يتلو عليهم آياتهالمراد به الآيات الكونية، أو المراد بالكتاب -هنا- الكتابة، فيكون قد امتن عليهم، بتعليم الكتاب والكتابة، التي بها تدرك العلوم وتحفظ، { والحكمةهي: السنة، التي هي شقيقة القرآن، أو وضع الأشياء مواضعها، ومعرفة أسرار الشريعة. فجمع لهم بين تعليم الأحكام، وما به تنفذ الأحكام، وما به تدرك فوائدها وثمراتها، ففاقوا بهذه الأمور العظيمة جميع المخلوقين، وكانوا من العلماء الربانيين، { وإن كانوا من قبلبعثة هذا الرسول { لفي ضلال مبين ( اي انهم  قبل بعثة الرسول فيهم  كانوا  لا يعرفون الطريق الموصل إلى ربهم، وكانوا لا يعرفون  ما يزكي النفوس ويطهرها، بل كانوا  يفعلون كل ما زين لهم جهلهم ، ولو ناقض ذلك عقول العالمين ).