اكفرت بالذي خلقك من تراب - سورة الكهف - محمود شلبي

اكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة 
ثم سواك رجلا

اضغط على الرابط بالاسفل
Click on link below


Translation

Holy Quran – Surat Al-Kahf (The Cave ) (18) – Verses :36

In the name of Allah the Almighty God , the Most Compassionate , the Most Merciful

[18.37] His companion said, during his conversation with him: 'What, do you disbelieve in Him who created you from dust, then from a spermdrop, and then fashioned you into a man!





تفسير الاية الكريمة :

بسم الله الرحمن الرحيم
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)
[ الكهف 37 ]

سنورد الايات السابقة واللاحقة لهذه الاية الكريمة  لكي يتم وضوح معناها بشكل وافي

وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا ۚ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَّٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)

[ الكهف :32 – 42 ]

( واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من اعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا )
والمثل فى اللغة الشبيه والنظير، وهو فى عرف القرآن الكريم الكلام البليغ المشتمل على تشبيه بديع. وضرب المثل إيراده، وعبر عن إيراده بالضرب، لشدة ما يحدث عنه من التأثير فى نفس السامع. أى واضرب - أيها الرسول الكريم - مثلا للمؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه، وللكافرين الذين غرتهم الحياة الدنيا، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حى عن بينة. قال الآلوسى " والمراد بالرجلين، إما رجلان مقدران على ما قيل، وضرب المثل لا يقتضى وجودهما. وإما رجلان موجودان وهو المعول عليه. فقيل هما رجلان من بنى إسرائيل أحدهما كافر.. والآخر مؤمن. ثم قال والمراد ضربهما مثلا للفريقين المؤمنين والكافرين، لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفا، بل من أن للمؤمنين فى الآخرة كذا، وللكافرين فيها كذا، من حيث عصيان الكفرة مع تقلبهم فى نعم الله، وطاعة المؤمنين مع مكابدتهم مشاق الفقر ". أى واضرب لهم مثلا من حيثية العصيان مع النعمة، والطاعة مع الفقر، حال رجلين { جعلنا لأحدهما } وهو الكافر { جنتين } أى بستانين، ولم يعين - سبحانه - مكانهما، لأنه لم يتعلق بهذا التعيين غرض. ثم بين ما اشتملت عليه هاتان الجنتان من خيرات فقال { من أعناب } جمع عِنَب، والعنبة الحبة منه. والمراد من كروم متنوعة. وقوله { وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } بيان لما أضيف إلى الجنتين من مناظر تزيدهما بهجة وفائدة. والحف بالشئ الإِحاطة به. يقال فلان حفه القوم، أى أحاطوا به، ومنه قوله - تعالى -{ وَتَرَى ٱلْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ... } أى جعلنا لأحد الرجلين، وهو الكافر منهما جنتين من أعناب، وأحطناهما بنخل ليكون كالحماية النافعة لهما، وجعلنا فى وسطهما زرعا وبذلك تكون الجنتان جامعتين للأقوات والفواكه، مشتملتين على ما من شأنه أن يشرح الصدر، ويفيد الناس. ثم ذكر - سبحانه - ما يزيد من جودة الجنتين، ومن غزارة خيرهما فقال { كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } وكلتا اسم مفرد اللفظ مثنى المعنى عند البصريين، وهو المذهب المشهور، ومثنى لفظا ومعنى عند غيرهم. أى أن كل واحدة من الجنتين { آتت أكلها } أى أعطت ثمارها التى يأكلها الناس من العنب والتمر وغيرهما من صنوف الزرع { وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً } أى ولم تنقص من هذا المأكول شيئا فى سائر السنين، بل كان أكل كل واحدة منهما وافيا كثيرا فى كل سنة، على خلاف ما جرت به عادة البساتين، فإنها فى الغالب تكثر ثمارها فى أحد الأعوام وتقل فى عام آخر. وفى التعبير بكلمة { تظلم } بمعنى تنقص وتمنع، مقابلة بديعة لحال صاحبهما الذى ظلم نفسه بجحوده لنعم الله - تعالى - واستكباره فى الأرض.

وقوله { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } أى وشققنا فى وسطهما نهرا ليمدهما بما يحتاجان إليه من ماء بدون عناء وتعب. فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هاتين الجنتين بما يدل على جمال منظرهما، وغزارة عطائهما، وكثرة خيراتهما، واشتمالهما على ما يزيدهما بهجة ومنفعة. ثم بين - سبحانه - أن صاحب هاتين الجنتين كانت له أموال أخرى غيرهما فقال { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ }. قال الآلوسى ما ملخصه " { وكان له } أى للأحد المذكور وهو صاحب الجنتين { ثمر } أى أنواع من المال.. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائى.. { ثُمُر } بضم الثاء والميم، وهو جمع ثمار - بكسر الثاء -.. أى أموال كثيرة من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك، وبذلك فسره ابن عباس وقتادة وغيرهما.. ". وقوله - سبحانه - { قَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } حكاية لما تفوه به هذا الكافر من ألفاظ تدل على غروره وبطره. والمحاورة المراجعة للكلام من جانبين أو أكثر. يقال تحاور القوم، إذا تراجعوا الكلام فيما بينهم. ويقال كلمته فما أحار إلى جوابا، أى ما رد جوابا. والنفر من ينفر - بضم الفاء - مع الرجل من قومه وعشيرته لقتال عدوه. أى فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن الشاكر أنا أكثر منك مالا وأعز منك عشيرة وحشما وأعوانا. وهذا شأن المطموسين المغرورين، تزيدهم شهوات الدنيا وزينتها.. بطرا وفسادا فى الأرض. وما أصدق قول قتادة - رضى الله عنه - " تلك - والله - أمنية الفاجر كثرة المال وعزة النفر ". ثم انتقل صاحب الجنتين من غروره هذا إلى غرور أشد. حكاه القرآن فى قوله { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً }. أى أن هذا الكافر لم يكتف بتطاوله على صاحبه المؤمن، بل سار به نحو جنته حتى دخلها وهو ظالم لنفسه بسبب كفره وجحوده وغروره. قال صاحب الكشاف فإن قلت فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلتُ معناه ودخل ما هو جنته، ما له جنة غيرها يعنى أنه لا نصيب له فى الجنة التى وعدها الله للمؤمنين، فما ملكه فى الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما. وقوله { وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } أى وهو معجب بما أوتى مفتخر به، كافر لنعمة ربه، معرض بذلك نفسه لسخط الله، وهو أفحش الظلم... وقوله { قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً } أى قال هذا الكافر لصاحبه ما أظن أن هذه الجنة تفنى أو تهلك أبدا. يقال باد الشئ يبِيدُ بَيْدا وبُيُوداً إذا هلك وفنى.

ثم ختم هذا الكافر محاورته لصاحبه بقوله { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً } أى كائنة ومتحققة. فهو قد أنكر البعث وما يترتب عليه من حساب بعد إنكاره لفناء جنته، ثم أكد كلامه بجملة قسمية فقال { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي } أى والله لئن رددت إلى ربى على سبيل الفرض والتقدير كما أخبرتنى يا صاحبى بأن هناك بعثا وحسابا { لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا } أى من هذه الجنة { منقلبا } أى مرجعاً وعاقبة. اسم مكان من الانقلاب بمعنى الرجوع والانصراف عن الشئ إلى غيره. وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -{ أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } وقوله - سبحانه -{ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } والمتدبر لحال صاحب الجنتين يراه، - أولا - قد زعم أن مدار التفاضل هو الثروة والعشيرة، ويراه - ثانيا - قد بنى حياته على الغرور والبطر، واعتقاد الخلود لزينة الحياة الدنيا، ويراه - ثالثاً - قد أنكر البعث والحساب، والثواب والعقاب. ويراه - رابعا - قد توهم أن غناه فى الدنيا سيكون معه مثله فى الآخرة قال صاحب الكشاف " وأخبر عن نفسه بالشك فى بيدودة جنته، لطول أمله، واستيلاء الحرص عليه، وتمادى غفلته، واغتراره بالمهلة، واطراحه النظر فى عواقب أمثاله، وترى أكثر الأغنياء من المسلمين، وإن لم يطلقوا بمثل هذا ألسنتهم، فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به، منادية عليه. وأقسم على أنه إن رد إلى ربه - على سبيل الفرض والتقدير - ليجدن فى الآخرة خيراً من جنته فى الدنيا، تطمعا وتمنيا على الله.. ". ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله الرجل المؤمن لصاحب الجنتين، الذى نطق بأفحش، وأفجر الفجور، فقال - تعالى - { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً... }.
أى قال الرجل الفقير المؤمن، فى رده على صاحبه الجاحد المغرور، منكرا عليه كفره قال له على سبيل المحاورة والمجاوبة يا هذا { أكفرت } بالله الذى { خلقك } بقدرته { من تراب }. أى خلق أباك الأول من تراب، كما قال سبحانهإِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أى خلق أباك آدم من تراب، ثم أوجدك أنت من نطفة عن طريق التناسل والمباشرة بين الذكر والأنثى. { ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } أى ثم صيرك إنسانا كاملا، ذا صورة جميلة، وهيئة حسنة. كما قال - سبحانه -{ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } والاستفهام فى قوله { أكفرت.. } للإِنكار والاستبعاد، لأن خلق الله - تعالى - له من تراب ثم نطفة، ثم تسويته إياه رجلا، يقتضى منه الإِيمان بهذا الخالق العظيم، وإخلاص العبادة له، وشكره على نعمائه. قالوا ولا يستلزم قول صاحب الجنتين قبل ذلكوَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } أنه كان مؤمنا، لأنه قال ذلك على سبيل الفرض والتقدير، لا على سبيل الاعتقاد واليقين، بدليل تردده فى إمكان قيام الساعة، ولأن اعترافه بوجود الله - تعالى - لا يستلزم الإِيمان الحق، فالكفار كانوا يعترفون بأن الله - تعالى - هو الخالق للسماوات والأرض، ومع هذا يشركون معه فى العبادة آلهة أخرى. وجاء التعبير بحرف " ثم " فى الآية، للاشارة إلى أطوار خلق الإِنسان التى فصلها - سبحانه - فى آيات أخرى، منها قوله - تعالى -{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } ثم يعلن الرجل الصالح موقفه بشجاعة ووضوح، فيقول لصاحبه صاحب الجنتين { لَّٰكِنَّاْ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً }. أى إن كنت أنت يا هذا قد كفرت بالله الذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا، فإنى لست بكافر، ولكنى أنا مؤمن، أعترف له بالعبادة والطاعة وأقول هو الله - تعالى - وحده ربى، ولا أشرك معه أحدا من خلقه لا فى الربوبية، ولا فى الألوهية، ولا فى الذات ولا فى الصفات. وقوله - سبحانه - فى هذه الآية { لكنا... } أصله " لكن أنا " أى لكن أنا أقول هو الله ربى. فحذفت همزة " أنا " وأدغمت نون " لكن " فى نون أنا بعد حذف الهمزة. وجمهور القراء يقرءون فى الوصل " لكن " بدون ألف 

قال صاحب الكشاف قوله { لَّٰكِنَّاْ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي } أصله لكن أنا فحذفت الهمزة، وألقيت حركتها على نون لكن، فتلاقت النونان فكان الإِدغام، ونحوه قول القائل
وترميننى بالطَّرف أى أنت مذنب وتقلينَنى، لكنَّ إياك لا أَقْلِى
   
أى لكن أنا لا أقليك. و " هو " ضمير الشأن أى والشأن أن الله ربى والجملة خبر أنا. والراجع منها إليه ياء الضمير. فإن قلت هو استدراك لأى شئ؟ قلت لقوله { أكفرت.. } قال لأخيه أنت كافر بالله، لكنى مؤمن موحد، كما تقول زيد غائب لكن عمرا حاضر ". ثم أرشده إلى ما كان يجب عليه أن يقوله عند دخوله جنته فقال { وَلَوْلاۤ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ... }. قال الإمام ابن كثير هذا تحضيض وحث على ذلك. أى هلا إذ أعجبتك جنتك حين دخلتها ونظرت إليها، حمدت الله على ما أنعم به عليك وأعطاك من المال والولد ما لم يعط غيرك وقلت { مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } ، ولهذا قال بعض السلف من أعجبه شئ من حاله أو ولده أو ماله، فليقل ما شاء الله لا قوة إلا بالله.. وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة. وقد روى فيه حديث مرفوع.. فعن أنس - رضى الله عنه - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فيرى فيه آفة دون الموت ". وقال الآلوسى وقوله " ما شاء الله، أى الأمر ما شاء الله، أو ما شاء الله - تعالى - كائن، على أن " ما " موصولة مرفوعة المحل. إما على أنها خبر مبتدأ محذوف. أو على أنها مبتدأ محذوف الخبر.. وأيما كان فالمراد تحضيضه على الاعتراف بأن جنته وما فيها بمشيئة الله - تعالى - إن شاء أبقاها وإن شاء أبادها ". وبعد أن حضه على الشكر لله - تعالى - رد على إفتخاره وغرروه بقوله - كما حكى القرآن عنه - { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فعسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ }. أى إن ترن - أيها المغرور - أنا أقل منك فى المال والولد فإنى أرجو الله الذى لا يعجزه شئ، أن يرزقنى ما هو خير من جنتك فى الدنيا والآخرة. { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } أى عذابا من جهة السماء كالصواعق والسموم وغيرها مما يشاء الله - تعالى - إرساله عليها من المهلكات التى تذرها قاعا صفصفا.

قال صاحب الكشاف والحسبان مصدر كالغفران والبطلان بمعنى الحساب. أى ويرسل عليها مقدارا قدره الله وحسبه، وهو الحكم بتخريبها. { فتصبح } بعد اخضرارها ونضارتها { صعيدا } أى أرضا { زلقا } أى جرداء ملساء لا نبات فيها، ولا يثبت عليها قدم. والمراد أنها تصير عديمة النفع من كل شئ حتى من المشى عليها. يقال مكان زَلَق، أى دَحْضٌ، وهو فى الأصل مصدر زَلِقَتْ رجله تزِلق زلقا، ومعناه الزلل فى المشى لوحل ونحوه. { أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً } أى غائراً ذاهبا فى الأرض. فالغور مصدر وصف به على سبيل المبالغة وهو بمعنى الفاعل. يقال غار الماء يغور غورا أى سفل فى الأرض وذهب فيها. ومنه قوله - تعالى -{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } { فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } أى فلن تستطيع أن تحصل عليه أو تطلبه بأية حيلة من الحيل، لأنه لا يقدر على الإِتيان بهذا الماء الغائر إلا الله - عز وجل -. وإلى هنا نجد أن الرجل المؤمن قد رد على صاحبه الكافر، بما يذكره بمنشئه، وبما يوجهه إلى الأدب الذى يجب أن يتحلى به مع خالقه ورازقه، وبما يحذره من سوء عاقبة بطره. وهكذا الإِيمان الحق، يجعل المؤمن يعتز بعقيدته، ويتجه إلى الله وحده الذى تعنو له الجباه، ويرجو منه وحده ما هو خير من بساتين الدنيا وزينتها. ثم يختتم - سبحانه - هذه القصة ببيان العاقبة السيئة التى حلت بذلك الرجل الجاحد المغرور صاحب الجنتين فيقول { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً... }.

أى وكانت نتيجة جحود صاحب الجنتين لنعم ربه، أن أهلكت أمواله وأبيدت كلها. فصار يقلب كفيه ظهراً لبطن أسفا وندما، على ما أنفق فى عمارتها وتزيينها من أموال كثيرة ضاعت هباء، ومن جهد كبير ذهب سدى. وقوله - سبحانه - { وأحيط بثمره } معطوف على مقدر محذوف لدلالة السباق والسياق عليه. وأصل الإِحاطة مأخوذة من إحاطة العدو بعدوه من جميع جوانبه لإِهلاكه واستئصاله. والمعنى فحدث ما توقعه الرجل الصالح من إرسال الحسبان على بستان صاحبه الجاحد المغرور { وأحيط بثمره } بأن هلكت أمواله وثماره كلها. وجاء الفعل { أحيط } مبنيا للمجهول، للإِشعار بأن فاعله متيقن وهو العذاب الذى أرسله الله - تعالى - أى وأحاط العذاب بجنته. وقوله { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا } تصوير بديع لما اعتراه من غم وهم وحسرة وندامة. وتقليب اليدين عبارة عن ضرب إحداهما على الأخرى، أو أن يبدى ظهرهما ثم بطنهما ويفعل ذلك مرارا، وأيَّامَّا كان ففعله هذا كناية عن الحسرة الشديدة، والندم العظيم. " وهى " أى الجنة التى أنفق فيها ما أنفق { خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } أى ساقطة ومتهدمة على دعائمها وعلى سقوفها. وأصل الخواء السقوط والتهدم. يقال خوى البيت إذا سقط. كما يطلق على الخلاء من الشئ. يقال خوى بطن فلان من الطعام أى خلا منه، وخوت الدار إذا خلت من سكانها. والعروش جمع عرش، وهو سقف البيت. والمقصود أن الجنة بجميع ما اشتملت عليه، صارت حطاما وهشيما تذروه الرياح. وجملة { وَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } معطوفة على جملة { يقلب كفيه.. }. أى صار يقلب كفيه حسرة وندامة لهلاك جنته، ويقول زيادة فى الحسرة والندامة يا ليتنى اتبعت نصيحة صاحبى فلم أشرك مع ربى - سبحانه - أحدا فى العبادة أو الطاعة. وهكذا حال أكثر الناس، يذكرون الله - تعالى - عند الشدائد والمحن، وينسونه عند السراء والعافية. والمتدبر لهذه الآية الكريمة يراها قد صورت فجيعة الرجل الجاحد فى جنته تصويرا واقعيا بديعا. فقد جرت عادة الإِنسان أنه إذا نزل به ما يدهشه ويؤلمه. أن يعجز عن النطق فى أول وهلة. فإذا ما أفاق من دهشته بدأ فى النطق والكلام. وهذا ما حدث من ذلك الرجل - كما صوره القرآن الكريم - فإنه عندما رأى جنته وقد تحطمت أخذ يقلب كفيه حسرة وندامة دون أن ينطق، ثم بعد أن أفاق من صدمته جعل يقول يا ليتنى لم أشرك بربى أحدا.