ان اول بيت وضع للناس - محمود شلبي

اضغط على الصورة للتكبير
Click on photo to see it big 

بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
[ ال عمران : 96 - 97 ]
Translation (1) :

Holy Quran – chapter ( 3  ) – Surat : Al-Imran  ( The Family of Imran ) – Verse : 96-97  .

In the Name of Allah, the Almighty God , the All-beneficent, the All-merciful. 

Verily, the first House (of worship) appointed for mankind was that at Bakkah (Makkah), full of blessing, and a guidance for Al-'Alamîn (the mankind and jinn). (96)
In it are manifest signs (for example), the Maqâm (place) of Ibrâhim (Abraham); whosoever enters it, he attains security. And Hajj (pilgrimage to Makkah) to the House (Ka'bah) is a duty that mankind owes to Allâh, those who can afford the expenses (for one's conveyance, provision and residence); and whoever disbelieves [i.e. denies Hajj (pilgrimage to Makkah), then he is a disbeliever of Allâh], then Allâh stands not in need of any of the 'Alamîn (mankind and jinn and all that exsists).  (97) 

Translation (2) :

Holy Quran – chapter ( 3  ) – Surat : Al-Imran  ( The Family of Imran ) – Verse : 96-97  .

In the Name of Allah, the Almighty God , the All-beneficent, the All-merciful. 

3-96
The first House (of worship) appointed for men was that at Bakka: Full of blessing and of guidance for all kinds of beings:
3-97
In it are Signs Manifest; (for example), the Station of Abraham; whoever enters it attains security; Pilgrimage thereto is a duty men owe to God,- those who can afford the journey; but if any deny faith, God stands not in need of any of His creatures.


Translation (3) :

Holy Quran – chapter ( 3  ) – Surat : Al-Imran  ( The Family of Imran ) – Verse : 96-97  .

In the Name of Allah, the Almighty God , the All-beneficent, the All-merciful. 

 [3:96]
Lo! the first Sanctuary appointed for mankind was that at Becca, a blessed place, a guidance to the peoples;
[3:97]
Wherein are plain memorials (of Allah’s guidance); the place where Abraham stood up to pray; and whosoever entereth it is safe. And pilgrimage to the House is a duty unto Allah for mankind, for him who can find a way thither. As for him who disbelieveth, (let him know that) lo! Allah is Independent of (all) creatures.

Translation (4) :

Holy Quran – chapter ( 3  ) – Surat : Al-Imran  ( The Family of Imran ) – Verse : 96-97  .

In the Name of Allah, the Almighty God , the All-beneficent, the All-merciful. 

[3.96] The first House ever to be built for people was that at Bakkah (Mecca) blessed and a guidance for the worlds.
[3.97] In it, there are clear signs; the station where Abraham stood. Whoever enters it let him be safe. Pilgrimage to the House is a duty to Allah for all who can make the journey. And whosoever disbelieves , Allah is Rich, independent of all the worlds.

تفسير الاية الكريمة [ الوسيط في تفسير القران الكريم / طنطاوي ] :

بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
[ ال عمران : 96 - 97 ]

قال الفخر الرازى ما ملخصه فى اتصال هاتين الآيتين بما قبلهما وجوه الأول أن المراد منهما الجواب عن شبهة أخرى من شبهات اليهود فى إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه لما حولت القبلة إلى الكعبة طعن اليهود فى نبوته وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال، وذلك لأنه وضع قبل الكعبة وهو أرض المحشر، وقبلة جملة الأنبياء، وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة إلى الكعبة باطلا، فأجاب الله عنه بقوله { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } فبين - سبحانه - أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف فكان جعلها قبلة أولى ". والمراد بالأولية أنه أول بيت وضعه الله لعبادته فى الأرض، وقيل المراد بها كونه أولا فى الوضع وفى البناء، ورووا فى ذلك آثارا ليس فيها ما يعتمد عليه. وبكة لغة فى مكة عند الأكثرين، والباء والميم تعقب إحداهما الأخرى كثيراً، ومنه النميط والنبيط فهما اسم لموضع. وقيل هما متغايران فبكة موضع المسجد ومكة اسم البلد بأسرها. وأصل كلمة بكة من البك وهو الازدحام. يقال تباك القوم إذا تزاحموا، وكأنها سميت بذلك لازدحام الحجيج فيها. والبك أيضاً دق العنق، وكأنها سميت بكة لأن الجبابرة تندق أعناقهم إذا أرادوها بسوء. وقيل إنها مأخوذة من بكأت الناقة أو الشاة إذا قل لبنها، وكأنها إنما سميت بذلك لقلة مائها وخصبها. والمعنى إن أول بيت وضعه الله - تعالى - للناس فى الأرض ليكون متعبداً لهم، هو البيت الحرام الذى بمكة، حيث يزدحم الناس أثناء طوافهم حوله، وقد أتوا إليه رجالا وعلى كل ضامر من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم. روى الشيخان عن أبى ذر قال " قلت يا رسول الله أى مسجد وضع فى الأرض أول؟ قال المسجد الحرام. قلت ثم آى؟ قال المسجد الأقصى. قلت كم بينهما؟ قال أربعون سنة، ثم قال حيثما أدركتك الصلاة فصل. والأرض لك مسجد ". قالوا وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد منه فقال معلوم أن سليمان بن داود هو الذى بنى المسجد الأقصى، والذى بنى المسجد الحرام هو إبراهيم وابنه إسماعيل، وبينهما وبين سليمان أكثر من ألف سنة فيكف قال صلى الله عليه وسلم إن بين بناء المسجدين أربعين سنة! والجواب أن الوضع غير البناء، فالذى أسس المسجد الأقصى ووضعه فى الأرض بأمر الله سيدنا يعقوبن بن إسحاق بن إبراهيم وبين إبراهيم ويعقوب هذه المدة التى جاءت فى الحديث، أما سليمان فلم يكن مؤسساً للمسجد الأقصى أو واضعاً له وإنما كان مجددا فلا إشكال ولا منافاة.
وإذن فالبيت الحرام أسبق بناء من المسجد الأقصى، وأجمع منه للديانات السماوية، وهو - أى البيت الحرام - أول بيت جعل الله الحج إليه عبادة مفروضة على كل قادر على الحج، وجعل الطواف حوله عبادة، وتقبيل الحجر الأسود الذى هو ضمن بنائه عبادة... ولا يوجد بيت سواه فى الأرض له من المزايا والخصائص ما لهذا البيت الحرام. وبذلك ثبت كذب اليهود فى دعواهم أن المسجد الأقصى أفضل من المسجد الحرام، وأن فى تحول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فى صلاته مخالفة للأنبياء قبله. ثم مدح الله - تعالى - بيته بكونه { مُبَارَكاً } أى كثير الخير دائمه، من البركة وهى النماء والزيادة والدوام. أى أن هذا البيت كثير الخير والنفع لمن حجه أو اعتمره أو اعتكف فيه، أو طاف حوله، بسبب مضاعفة الأجر، وإجابة الدعاء، وتكفير الخطايا لمن قصده بإيمان وإخلاص وطاعة لله رب العالمين. وإن هذا البيت فى الوقت ذاته وفير البركات المادية والمعنوية. فمن بركاته المادية قدوم الناس إليه من مشارق الأرض ومغاربها ومعهم خيرات الأرض، يقدمونها على سبيل تبادل المنفعة تارة وعلى سبيل الصدقة تارة أخرى لمن يسكنون حول هذا البيت الحرام، إجابة لدعوة سيدنا إبراهيم حيث قالرَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } ومن بركاته المعنوية أنه مكان لأكبر عبادة جامعة للمسلمين وهى فريضة الحج، وإليه يتجه المسلمون فى صلاتهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأماكنهم. وقوله { مُبَارَكاً } حال من الضمير فى " وضع ". ثم مدحه بأنه { هُدًى لِّلْعَالَمِينَ } أى بذاته مصدر هداية للعالمين، لأنه قبلتهم ومتعبدهم، وفى استقباله توجيه للقلوب والعقول إلى الخير وإلى ما يوصلهم إلى رضا الله وجنته. ثم مدحه - ثالثا - بقوله { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ } أى فيه علامات ظاهرات، ودلائل واضحات تدل على شرف منزلته، وعلو مكانته. وهذه الجملة الكريمة مستأنفة لبيان وتفسير بركته وهداه. ثم بين - سبحانه - بعض هذه الآيات البينات الدالة على عظمه وشرفه فقال { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً }. فالآية الأولى الدالة على عظم وشرف البيت الحرام { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } أى المقام المعروف بهذا الاسم. وهو الموضع الذى كان يقوم فيه إبراهيم تجاه الكعبة لعبادة الله - تعالى - ولإِتمام بناء الكعبة ومعنى أن فى البيت مقام إبراهيم أى أنه فى فنائه ومتصل به. قال ابن كثير عن جابر - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأوَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين. 
والمراد بالمقام إنما هو الحجر الذى كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل بهذا الحجر ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار... ثم قال وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما. ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلى الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك. وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى ناحية المشرق حيث هو الآن. ليتمكن الطائفون من الطواف، وليصلى المصلون عنده دون تشويش عليهم من الطائفين. وقوله { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } مبتدأ محذوف الخبر أى مقام إبراهيم منها أى من هذه الآيات البينات. أو خبر لمبتدأ محذوف أى فيه آيات بينات أحدها مقام إبراهيم. وقد رجح ابن جرير أن قوله - تعالى - { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } هو بعض الآيات البينات التى فى البيت الحرام فقال وأولى الأقوال فى تأويل ذلك بالصواب قول من قال الآيات البينات منهن مقام إبراهيم. وهو قول قتادة ومجاهد الذى رواه معمر عنهما فيكون الكلام مرادا فيه منهن فترك ذكره اكتفاء بدلالة الكلام عليها. فإن قال قائل فهذا المقام من الآيات البينات فما سائر الآيات التى من أجلها قيل { آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ }؟ قيل منهن المقام، ومنهن الحجر، ومنهن الحطيم ". وقال ابن عطية والراجح عندى أن المقام وآمن الداخلين جعلا مثالا لما فى حرم الله من الآيات، وخصا بالذكر لعظمهما وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم. وأما الآية الثانية التى تدل على فضل هذا البيت وشرفه فقد بينها القرآن بقوله { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً }. أى من التجأ إليه أمن من التعرض له بالأذى أو القتل قال - تعالى -{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } وفي ذلك إجابة لسيدنا إبراهيم حيث قال - كما حكى القرآن عنه -{ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِناً وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } ولا شك أن فى أمن من دخل هذا البيت أكبر آية على تعظيمه وعلى علو مكانته عند الله لأنه موضع أمان الناس فى بيئة تغرى بالاعتداء لخلوها من الزرع والنبات. وفى الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن أبى شريح العدوى أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث لمكة - يعنى لقتال عبد الله بن الزبير - ائذن لى أيها الأمير أن أحدثك قولا قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، - سمعته أذناى ووعاه قلبى، وأبصرته عيناى - حين تكلم به - إنه حمد لله وأثنى عليه ثم قال إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها - أى أخذ فيه بالرخصة - فقولوا له إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم، وإنما أذن لى فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب.
فقيل لأبى شريح ما قال لك عمرو؟ فقال أبو شريح قال لى يا أبا شريح أنا أعلم بذلك منك. إن الحرم لا يعيذ عاصيا - أى لا يجيره ولا يعصم دمه - ولا فاراً بدم - أى أن الحرم لا يجير إنساناً هارباً إليه لسبب من الأسباب الموجبة للقتل - ولا فاراً بخربة - أى بسبب سرقة أو خيانة. ولقد كان أهل الجاهلية يعظمون المسجد الحرام - وخصوصا أهل مكة - فلما جاء الإِسلام أقر له هذه الميزة وزكاها، ووضع لها الضوابط والأحكام التى تضمن استعمالها فى الوجوه التى شرعها الله. فقد اتفق الفقهاء على أن من جنى فى الحرم جناية فهو مأخوذ بجنايته سواء أكانت فى النفس أم فيما دونها. واختلفوا فيمن جنى فى غير الحرم ثم لاذ إليه. فقال أبو حنيفة وابن حنبل إذا قتل فى غير الحرم ثم دخل الحرم لا يقتص منه ما دام فيه، ولكن لا يجالس ولا يعامل ولا يؤاكل إلى أن يخرج منه فيقتص منه. وإن كانت جنايته فيما دون النفس فى غير الحرم ثم دخل الحرم اقتص منه. وقال مالك والشافعى يقتص منه فى الحرم لذلك كله كما يقتص منه فى الحل. ولكل فريق أدلته المبسوطة فى كتب الفقه. ثم أخبر - سبحانه - عن وجوب الحج على كل قادر عليه فقال { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ }. أى أن الله - تعالى - فرض على الناس أن يحجوا بيته فى أوقات معينة وبكيفية مخصوصة متى كان فى استطاعتهم أداء هذه الفريضة. { وَمَن كَفَرَ } أى من جحد فرضية الحج وأنكرها، ولم يؤدها مع استطاعته وقدرته على أدائها فإن الله غنى عنه وعن حجه وعن الناس جميعاً. قال صاحب الكشاف وفى هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد منها قوله { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } يعنى أنه حق واجب لله فى رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته. ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه من استطاع إليه سبيلا وفيه ضربان من التأكيد أحدهما أن الإِبدال تثنية للمراد وتكرير له. والثانى أن الإِيضاح بعد الإِيهام، والتفصيل بعد الإِجمال إيراد له فى صورتين مختلفتين. ومنها قوله { وَمَن كَفَرَ } مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك الحج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم " من مات ولم يحج فليمت إن شاء الله يهودياً أو نصرانياً "
ومنها ذكر الاستغناء عنه، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان. ومنها قوله { عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } ولم يقل عنه، لأن فيه الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ولأنه يدل على الاستغناء الكامل، فكان أدل على عظم السخط. وقوله { وَللَّهِ } خبر مقدم متعلق بمحذوف أى واجب. { عَلَى ٱلنَّاسِ } متعلق بهذا المحذوف. وقوله { حِجُّ ٱلْبَيْتِ } مبتدأ مؤخر. والناس عام مخصوص بالمستطيع، وقد خصص ببدل البعض فى قوله { مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } إذ هذه الجملة بدل من الناس بدل البعض من الكل. والضمير فى البدل مقدر أى من استطاع منهم إليه سبيلا. و " من " فى قوله { وَمَن كَفَرَ } يحتمل أن تكون شرطية وهو الظاهر، وأن تكون موصولة، وعلى الاحتمالين استغنى فيا بعد الفاء عن الرابط بإقامة الظاهر مقام المضمر إذ الأصل ومن كفر فإن الله غنى عنه فاستغنى بالظاهر عن المضمر. قال ابن كثير والجمهور يرى أن هذه الآية هى آية وجوب الحج. وقيل بل هى آية { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ } والأول أظهر. وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإِسلام ودعائمه وقوائمه، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروياً وإنما يجب على المكلف فى العمر مرة واحدة بالنص والإِجماع فعن أبى هريرة قال خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا. فقال رجل أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذرونى ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شىء فدعوه ". وعن ابن عمر - رضى الله عنهما - قال " قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما السبيل يا رسول الله، فقال الزاد والراحلةوبذلك تكون هاتان الآيتان والآيات التى قبلهما قد ردت على اليهود فى دعواهم أن ما حرمه الله عليهم من طيبات لم يكن عقوبة لهم بسبب ظلمهم وبغيهم، وكذبتهم فى دعواهم أن بيت المقدس أفضل من المسجد الحرام. وقد اشتمل هذا الرد على ما يثبت افتراءهم من واقع التاريخ، فقد أمر الله - تعالى - النبى صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بإحضار التوراة إن كانوا صادقين فى دعواهم، فبهتوا وانقلبوا صاغرين، وأثبت القرآن أن البيت الحرام أول بيت وضع فى الأرض لعبادة الله، فهو يسبق بيت المقدس فى أولوية الشرف والزمان. وإذن فجدال اليهود للنبى صلى الله عليه وسلم فى هذه الأمور ما هو إلا نوع من عنادهم وجحودهم للحق، والمعاند والجاحد لا ينفع معهما دليل أو برهان. وبعد هذا الرد المفحم من القرآن على اليهود فى هاتين القضيتين - قضية ما حرم عليهم من الأطعمة وقضية نزاعهم فى أفضلية البيت الحرام - بعد كل ذلك ساق القرآن طرفا من مسالكهم الخبيثة لكيد الإِسلام والمسلمين عن طريق محاولتهم الدس والوقيعة وإثارة الفتنة بين المؤمنين. وقد حذر الله المؤمنين من شرورهم بعد أن وبخ اليهود على مكرهم، وتوعدهم بسوء المصير. استمع إلى القرآن وهو يسوق هذه المعانى بأسلوبه الحكيم فيقول { قُلْ يٰأَهْلَ... }.

[ تفسير الاية الكريمة / ابن كثير ]
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96)
[ ال عمران : 96 ]

يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس ، أي : لعموم الناس ، لعبادتهم ونسكهم ، يطوفون به ويصلون إليه ويعتكفون عنده ( للذي ببكة )  يعني : الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه السلام  الذي يزعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجه ، ولا يحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه . ولهذا قال : (مباركا )  أي وضع مباركا ( وهدى للعالمين)
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وضع في الأرض أول ؟ قال : " المسجد الحرام " . قلت : ثم أي ؟ قال : " المسجد الأقصى " . قلت : كم بينهما ؟ قال : " أربعون سنة " . قلت : ثم أي ؟ قال : ثم حيث أدركت الصلاة فصل ، فكلها مسجد " .
وأخرجه البخاري ، ومسلم ، من حديث الأعمش ، به .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا شريك عن مجالد ، عن الشعبي عن علي في قوله تعالى: (  إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا)  قال : كانت البيوت قبلة ، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله تبارك وتعالى
قال وحدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة قال :
قام رجل إلى علي فقال : ألا تحدثني عن البيت : أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ قال لا ، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا . وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت ، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في سورة البقرة فأغنى عن إعادته .
وزعم السدي أنه أول بيت وضع على وجه الأرض مطلقا . والصحيح قول علي ( رضي الله عنه)  فأما الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة في كتابه دلائل النبوة ، من طريق ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا : " بعث الله جبريل إلى آدم وحواء ، فأمرهما ببناء الكعبة ، فبناه آدم ، ثم أمر بالطواف به ، وقيل له : أنت أول الناس ، وهذا أول بيت وضع للناسفإنه كما ترى من مفردات ابن لهيعة ، وهو ضعيف . والأشبه ، والله أعلم ، أن يكون هذا موقوفا على عبد الله بن عمرو . ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك ، من كلام أهل الكتاب .
وقوله تعالى : ( للذي ببكة )  بكة : من أسماء مكة على المشهور ، قيل سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة ، بمعنى : يبكون بها ويخضعون عندها . وقيل : لأن الناس يتباكون فيها ، أي : يزدحمون .
قال قتادة : إن الله بك به الناس جميعا ، فيصلي النساء أمام الرجال ، ولا يفعل ذلك ببلد غيرها .
وكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعمرو بن شعيب ، ومقاتل بن حيان .
وذكر حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : مكة من الفج إلى التنعيم ، وبكة من البيت إلى البطحاء .
وقال شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم : بكة : البيت والمسجد . وكذا قال الزهري .
وقال عكرمة في رواية ، وميمون بن مهران : البيت وما حوله بكة ، وما وراء ذلك مكة .
وقال أبو صالح ، وإبراهيم النخعي ، وعطية [ العوفيومقاتل بن حيان : بكة موضع البيت ، وما سوى ذلك مكة .
وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة : مكة ، وبكة ، والبيت العتيق ، والبيت الحرام ، والبلد الأمين ، والمأمون ، وأم رحم ، وأم القرى ، وصلاح ، والعرش على وزن بدر ، والقادس ، لأنها تطهر من الذنوب ، والمقدسة ، والناسة : بالنون ، وبالباء أيضا ، والحاطمة ، والنساسة ، والرأس ، وكوثى ، والبلدة ، والبنية ، والكعبة .
  
[ تفسير الاية الكريمة  / البغوي ]
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96)
[ ال عمران : 96 ]

قوله تعالى: ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا )
 سبب   نزول هذه الآية  :  أن اليهود قالوا للمسلمين : بيت المقدس قبلتنا ، وهو أفضل من الكعبة وأقدم ، وهو مهاجر الأنبياء ، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل ، فأنزل الله تعالى: (  إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) (  فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ) وليس شيء من هذه الفضائل لبيت المقدس .
واختلف العلماء في قوله تعالى : (  إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة)
 فقال بعضهم : هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق  السماء  والأرض ، خلقه الله قبل الأرض بألفي عام ، وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته ، هذا قول عبد الله بن عمر ومجاهد وقتادة والسدي .
وقال بعضهم : هو أول بيت بني في الأرض ، روي عن علي بن الحسين : أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتا وهو البيت المعمور ، وأمر الملائكة أن يطوفوا به ، ثم أمر الملائكة الذين هم سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتا على مثاله وقدره ، فبنوا واسمه الضراح ، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور .
وروي أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام ، وكانوا يحجونه ، فلما حجه آدم ، قالت الملائكة : بر حجك يا آدم حججنا هذا البيت قبلك بألف عام ، ويروى عن ابن عباس أنه قال : أراد به أنه أول بيت بناه آدم في الأرض ، وقيل : هو أول بيت مبارك وضع  في الأرض هدى للناس ، يروى ذلك عن علي بن أبي طالب ، قال الضحاك : أول بيت وضع فيه البركة وقيل : أول بيت وضع للناس يحج إليه . وقيل : أول بيت جعل قبلة للناس . وقال الحسن والكلبي : معناه : أول مسجد ومتعبد وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى : (  في بيوت أذن الله أن ترفع )  يعني المساجد .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا موسى بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الواحد ، أنا الأعمش ، أخبرنا إبراهيم بن يزيد التيمي ، عن أبيه ، قال سمعت أبا ذر يقول : قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولا؟ قال : " المسجد الحرام ، قلت ثم أي؟ قال : المسجد الأقصى قلت : كم كان بينهما؟ قال : أربعون سنة ، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصل فإن الفضل فيه " .
قوله تعالى : (  للذي ببكة )  قال جماعة : هي مكة نفسها ، وهو قول الضحاك ، والعرب تعاقب بين الباء والميم ، فتقول : سبد رأسه وسمده وضربة لازب ولازم ، وقال الآخرون : بكة موضع البيت ومكة اسم البلد كله .
وقيل : بكة موضع البيت والمطاف ، سميت بكة : لأن الناس يتباكون فيها ، أي يزدحمون يبك بعضهم بعضا ، ويصلي بعضهم بين يدي بعض ويمر بعضهم بين يدي بعض .
وقال عبد الله بن الزبير : سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة ، أي تدقها فلم يقصدها جبار بسوء إلا قصمه الله .
وأما مكة سميت بذلك لقلة مائها من قول العرب : مك الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن ، وتدعى أم رحم لأن الرحمة تنزل بها .
(  مباركا)  نصب على الحال أي : ذا بركة ( وهدى للعالمين )  لأنه قبلة المؤمنين .