لوط وضيوفه الكرام عليهم السلام وقوم لوط
نبي الله لوط عليه السلام وضيوفه الملائكة الكرام عليهم السلام
وقوم لوط ( قوم سدوم وعمورة )
The prophet Lot and his honourable guests ( the angels ) peace be upon them all,
and the people of Lot ( the people of Sodom and Gomorrah )
مجموعة الايات الاولي :
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ( 81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
[ الاعراف : 80 – 84 ]
مجموعة الايات الثانية :
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) (
[ هود : 69 – 83 ]
مجموعة الايات الثالثة :
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
[ القمر : 33 – 39 ]
مجموعة الايات الرابعة :
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ (77)
[ الحجر : 61 – 70 ]
Translations : [ By Dr. Mohsin khan ]
[1] First verses group
[ Holy Quran - Chapter :
7 - Surat : Al-A’raf ( The Ramparts ) - Verses : 80 - 84 ]
In
the name of Allah the Almighty God , the Most Beneficent , the Most Merciful .
And (remember) Lût (Lot), when he
said to his people: "Do you commit the worst sin such as none preceding
you has committed in the 'Alamîn (mankind and jinn)? (80) "Verily, you
practise your lusts on men instead of women. Nay, but you are a people transgressing
beyond bounds (by committing great sins)." (81)And the answer of his
people was only that they said: "Drive them out of
your town, these are indeed men who want to be pure (from
sins)!" (82) Then We saved him and his family, except his wife; she was of
those who remained behind (in the torment) (83) And We rained down on them a
rain (of stones). Then see what was the end of the Mujrimûn (criminals,
polytheists and sinners). (84)
[2] Second verses group
[ Holy Quran – Chapter : 11 -
Surat : Hood ( The Prophet Hood ) - Verses : 77 - 83
]
In
the name of Allah the Almighty God , the Most Beneficent , the Most Merciful .
And when Our Messengers came to Lut (Lot), he was grieved on for them account and felt himself straitened for them (lest the town people should approach them to commit sodomy with them). He said: "This is a distressful day." (77) And his people came rushing towards him, and since aforetime they used to commit crimes (sodomy), he said: "O my people! Here are my daughters (i.e. the women of nation), they are purer for you (if you marry them lawfully). So fear Allâh and degrace me not with regards to my guests! Is there not among you a single right-minded man?" (78) They said: "Surely you know that we have neither any desire nor need of your daughters, and indeed you know well what we want!" (79) He said: "Would that I had strength (men) to overpower you, or that I could betake myself to some powerful support (to resist you)." (80) They (Messengers) said: "O Lut (Lot)! Verily, we are the Messengers from your Lord! They shall not reach you![] So travel with your family in a part of the night, and let not any of you look back, but your wife (will remain behind), verily, the punishment which will afflict them, will afflict her. Indeed, morning is their appointed time. Is not the morning near?" (81)So when Our Commandment came, We turned (the towns of Sodom in Palestine) upside down, and rained on them stones of baked clay, in a well-arranged manner one after another; (82) Marked from your Lord, and they are not ever far from the Zâlimûn (polytheists, evil-doers,). (83)
[3] Third verses group
[ Holy Quran – Chapter : 54 - Surat
: Al-Qamar ( The Moon ) – Verses : 33 - 39 ]
In
the name of Allah the Almighty God , the Most Beneficent , the Most Merciful .
The people of Lut (Lot)
denied the warnings . [33]
Verily , We sent against
them aviolent storm of stones (which destryed
them all ), except the family of Lut (Lot ) , We saved them in the
last hour of night . [34]
As a Grace from Us: thus
do We reward those who give thanks. [35]
And (Lut) did warn them
of Our Punishment, but they disputed about the Warning. [36]
And they even sought to
snatch away his guests from him . So We blinded their eyes , (saying ) “ Then
taste you My Torment and My Warnings .” [37]
And verily , an abiding
torment seized them early in the morning. [38]
“ So taste you My Torment and My Warnings. “ [39]
[4] Fourth verses group
[ Holy Quran
– Chapter : 15 - Surat : Al-Hijr (The Valley of Hijr) – Verses
: 61 - 75 ]
In
the name of Allah the Almighty God , the Most Beneficent , the Most Merciful .
Then, when the Messengers (the
angels) came unto the family of Lut (Lot). (61)
He said: "Verily! You are
people unknown to me." (62) They said: "Nay, we have come to you with
that (torment) which they have been doubting. (63)
"And we have brought to you
the truth (the news of the destruction of your nation) and certainly, we tell
the truth. (64)
"Then travel in a part of the night with
your family, and you go behind them in the rear, and let no one amongst you
look back, but go on to where you are ordered." (65)
تفسير وشرح الاية الكريمة [
تفسير الوسيط في تفسير القرأن الكريم / طنطاوي] :
مجموعة الايات الاولي :
بسم الله الرحمن الرحيم
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا
سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ( 81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ
قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُجْرِمِينَ (84)
[
الاعراف : 80 –
84
]
التفسير :
قال ابن كثير لوط. هو ابن هاران بن آزر وهو ابن أخى إبراهيم، وكان قد
آمن مع إبراهيم وهاجر معه إلى أرض الشام، فبعثه الله إلى أهل سدوم وما حولها من
القرى يدعوهم إلى الله - تعالى - ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من
المآثم والمحارم والفواحش التى اخترعوها لم يسبقهم بها أحد من بنى آدم ولا من
غيرهم، وهو إتيان الذكور دون الإِناث، وهذا شىء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه
ولا يخطر ببالهم " حتى صنع ذلك أهل سدوم - وهى قرية بوادى الأردن - عليهم
لعائن الله ". وقوله - تعالى - { وَلُوطاً } منصوب بفعل مضمر معطوف على ما
سبق أى وأرسلنا لوطا و { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } ظرف لأرسلنا، وجوز أن يكون {
لُوطاً } منصوبا باذكر محذوفا فيكون من عطف القصة على القصة، و { إِذْ } بدل من
لوط بدل اشتمال بناء على أنها لا تلزم الظرفية. وقوله { أَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَةَ
مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن ٱلْعَالَمِينَ }. أى أتفعلون تلك الفعلة
التى بلغت نهاية القبح والفحش، والتى ما فعلها أحد قبلكم فى زمن من الأزمان فأنتم
أول من ابتدعها فعليكم وزرها ووزر من عملها إلى يوم القيامة، والاستفهام، للانكار
والتوبيخ قال عمر بن دينار " ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط ".
وقال الوليد بن عبد الملك " لولا أن الله قص علينا خبر قوم لوط ما ظننت أن
ذكراً يعلوا ذكرا " والباء فى { بِهَا } كما قال الزمخشرى - للتعدية، من قولك
سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله ومن قوله صلى الله عليه وسلم " سبقك
بها عكاشة
" و { مِنْ } فى قوله { مِنْ أَحَدٍ } لتأكيد النفى وعمومه المستغرق لكل
البشر. والجملة - كما قال أبو السعود - " مستأنفة مسوقة لتأكيد النكير وتشديد
التوبيخ والتقريع، فإن مباشرة القبح قبيح واختراعه أقبح، فأنكر عليهم أولا إتيان
الفاحشة، ثم وبخهم بأنهم أول من عملها ". ثم أضاف لوط إلى إنكاره على قومه
إنكارا آخر وتوبيخا أشنع فقال { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن
دُونِ ٱلنِّسَآءِ }. أى إنكم إيها القوم الممسوخون فى طبائعكم حيث تأتون الرجال
الذين خلقهم الله ليأتوا النساء، ولا حامل لكم على ذلك إلا مجرد الشهوة الخبيثة القذرة.
والاتيان كناية عن الاستمتاع والجماع. من أتى المرأة إذا غشيها. وفى إيراد لفظ {
ٱلرِّجَالَ } دون الغلمان والمردان ونحوهما، مبالغة فى التوبيخ والتقريع. قال صاحب
الكشاف " و { شَهْوَةً } مفعول له، أى للاشتهاء ولا حامل لكم عليه إلا مجرد
الشهوة من غير داع آخر. ولا ذم أعظم منه، لأنه وصف لهم بالبهيمية، وأنه لا داعى
لهم من جهة العقل البتة كطلب النسل ونحوه.
أو حال بمعنى مشتهين تابعين للشهوة غير ملتفتين إلى السماحة ".
وقوله { مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ } حال من الرجال أو من الواو فى تأتون، أى تأتون
الرجال حالة كونكم تاركين النساء اللائى هن موضع الاشتهاء عند ذوى الطبائع
السليمة، والأخلاق المستقيمة. قال الجمل " وإنما ذمهم وعيرهم ووبخهم بهذا
الفعل الخبيث، لأن الله - تعالى - خلق الإِنسان وركب فيه شهوة النكاح لبقاء النسل
وعمران الدنيا، وجعل النساء محلا للشهوة وموضعا للنسل. فإذا تركهن الإِنسان وعدل
عنهن إلى غيرهن من الرجال فقد أسرف وجاوز واعتدى، لأنه وضع الشىء فى غير محله
وموضعه الذى خلق له، لأن أدبار الرجال ليست محلا للولادة التى هى مقصودة بتلك
الشهوة للإِنسان ". وقوله { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } إضراب عن الإِنكار
إلى الاخبار عن الأسباب التى جعلتهم يرتكبون هذه القبائح، وهى أنهم قوم عادتهم
الاسراف وتجاوز الحدود فى كل شىء. أى أنتم أيها القوم لستم ممن يأتى الفاحشة مرة
ثم يهجرها ويتوب إلى الله بل أنتم قوم مسرفون فيها وفى سائر أعمالكم، لا تقفون عند
حد الاعتدال فى عمل من الأعمال. وقد حكى القرآن أن لوطا - عليه السلام - قال لهم
فى سورة العنكبوت{ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ
وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ } وقال
لهم فى سورة الشعراء{ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } أى
متجاوزون لحدود الفطرة وحدود الشريعة. وقال لهم فى سورة النمل{ بَلْ
أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } وهو يشمل الجهل
الذى هو ضد العلم، والجهل الذى هو بمعنى السفه والطيش. ومجموع الآيات يدل على أنهم
كانوا مصابين بفساد العقل، وانحطاط الخلق، وإيثار الغى والعدوان على الرشاد
والتدبر. ولقد حكى القرآن جوابهم القبيح على نصائح نبيهم لهم، فقال { وَمَا كَانَ
جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ }. أى وما
كان جواب الطغاة المستكبرين على نصائح نبيهم لوط - عليه السلام - إلا أن قال بعضهم
لبعض أخرجوا لوطا ومن معه من المؤمنين من قريتكم سدوم التى استوطنتموها وعشتم بها.
وقوله { إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ } استثناء مفرغ من أعم الأشياء، أى ما كان جوابهم
شيئا من الأشياء سوى قول بعضهم لبعض أخرجوهم. لماذا هذا الإِخراج؟ بين القرآن
أسبابه كما تفوهت به ألسنتهم الخبيثة، واتفقت عليه قلوبهم المنكوسة فقال {
إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } بهذه الجلمة التعليلية. أى إن لوطا وأتباعه
أناس يتنزهون عن إتيان الرجال، وعن كل عمل من أعمالنا لا يرونه مناسبا لهم. يقال
تطهر الرجل، أى تنزه عن الآثام والقبائح. وما أعجب العقول عندما تنتكس، والأخلاق
عندما ترتكس، إنها تستنكف أن يبقى معها الطهور المتعفف عن الفحش، وتعمل على
إخراجه، ليبقى لها الملوثون الممسوخون وإنه لمنطق يتفق مع المنحرفين الذين انحطت
طباعهم، وانقلبت موازينهم، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم فرأوه حسنا.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال " وقولهم { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش، وافتخار بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد ". ثم حكت السورة عاقبة الفريقين فقالت { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } أى أنجينا لوطا ومن يختص به من ذويه أو من المؤمنين به. قالوا ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط، كما قال - تعالى -{ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } وقوله { إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ } استثناء من أهله، أى فأنجيناه وأهله إلا امرأته فإنا لم ننجها لخبثها وعدم إيمانها. قال ابن كثير إنها لم تؤمن به، بل كانت على دين قومها، تمالئهم عليه وتخبرهم بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم، ولهذا لما أمر لوط - عليه السلام - ليسرى بأهله أمر أن لا يعلمها ولا يخرجها من البلد، ومنهم من يقول بل اتبعتهم، فلما جاء العذاب التفتت هى فأصابها ما أصابهم، والأظهر أنها لم تخرج من البلد ولا أعلمها لوط بل بقيت معهم، ولهذا قال ها هنا { إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَابِرِينَ } أى " الباقين فى العذاب ". والغابر الباقى. يقال غبر الشىء يغبر غبورا، أى " بقى ". وقد يستعمل فيما مضى - أيضا - فيكون من الأضداد، ومنه قول الأعشى فى الزمن الغابر. أى الماضى. وقوله { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً } أى وأرسلنا على قوم لوط نوعا من المطر عجيبا أمره، وقد بينه الله فى آية أخرى بقوله{ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } أى جازيناهم بالعقوبة التى تناسب شناعة جرمهم فإنهم لما قلبوا الأوضاع فأتوا الرجال دون النساء، أهلكناهم بالعقوبة التى قلبت عليهم قريتهم فجعلت أعلاها أسفلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل أى من طين متجمد. ثم ختمت القصة بالدعوة إلى التعقل والتدبر والاعتبار فقال - تعالى - { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ }. أى فانظر أيها العاقل نظرة تدبر واتعاظ فى مآل أولئك الكافرين المقترفين لأشنع الفواحش، واحذر أن تعمل أعمالهم حتى لا يصيبك ما أصابهم وسر فى الطريق المستقيم لتنال السعادة فى الدنيا والآخرة. هذا، وقد وردت أحاديث تصرح بقتل من يعمل عمل قوم لوط فقد روى الإِمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذى والحاكم والبيهقى عن ابن عباس. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط. فاقتلوا الفاعل والمفعول به ". وذهب الإِمام أبو حنيفة إلى أن اللاثط يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط. وذهب بعض العلماء إلى أن يرجم، سواء أكان محصنا أو غير محصن.
مجموعة الايات الثانية :
بسم الله الرحمن الرحيم
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ
ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ
لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ
رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ
وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ
آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ
يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ
مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ
أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً
مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ
الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
[هود
: 77 – 83
]
التفسير :
تلك هى قصة لوط مع الرسل الذين جاءوا لإِهلاك قومه ومع قومه المجرمين، كما حكتها سورة هود. - وقد وردت هذه القصة فى سور أخرى وبأساليب متنوعة، ومنها سورة الأعراف، والحجر، والشعراء، والنمل، والعنكبوت، والصافات، والذاريات، والقمر.. قال الإِمام ابن كثير ولوط ابن هاران بن آزر، فهو ابن أخى إبراهيم، وكان قد آمن مع عمه إبراهيم وهاجر معه إلى أرض الشام، فبعثه الله إلى أهل بلدة سدوم وما حولها يدعوهم إلى وحدانية الله - تعالى -، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التى اخترعوها دون أن يسبقهم بها أحد من بنى آدم ولا من غيرهم، وهو إتيان الذكور دون الإِناث، وهذا شئ لم يكن أحد من بنى آدم يعهده ولا يألفه ولا يخطر بباله، حتى صنع ذلك أهل سدوم - " وهم قرية بوادى الأردن عليهم لعائن الله " - وقد بدأ - سبحانه - القصة هنا بتصوير ما اعترى لوطا - عليه السلام - من ضيق وغم عندما جاءته الرسل فقال { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ... } - أى وحين جاء الملائكة إلى لوط - عليه السلام - بعد مفارقتهم لإبراهيم، ساءه وأحزنه مجيئهم، لأنه كان لا يعرفهم، ويعرف أن قومه قوم سوء، فخشى أن يعتدى قومه عليهم، بعادتهم الشنيعة، وهو عاجز عن الدفاع عنهم.. قال ابن كثير ما ملخصه " يخبر الله - تعالى - عن قدوم رسله من الملائكة إلى لوط - عليه السلام - بعد مفارقتهم لإِبراهيم.. فأتوا لوطاً - عليه السلام - وهو على ما قيل فى أرض له. وقيل فى منزله، ووردوا عليه وهم فى أجمل صورة تكون، على هيئة شبان حسان الوجوه، ابتلاء من الله، وله الحكمة والحجة البالغة، فساءه شأنهم... " - وقوله { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } تصوير بديع لنفاد حيلته، واغتمام نفسه وعجزه عن وجود حيلة للخروج من المكروه الذى حل بهم. قال القرطبى والذرع مصدر ذرع. وأصله أن يذرع البعير بيديه فى سيره ذرعاً على قدر سعة خطوه فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق عن ذلك وضعف ومد عنقه. فضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع. وقيل هو من ذرعه القئ أى غلبه. أى ضاق عن حبسه المكروه فى نفسه. وإنما ضاق ذرعه بهم لما رأى من جمالهم، وما يعلمه من فسوق قومه... ". - و { ذرعا } تمييز محول عن الفاعل. أى ضاق بأمرهم ذرعه. { وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } أى وقال لوط - عليه السلام - فى ضجر وألم هذا اليوم الذى جاءنى فيه هؤلاء الضيوف، يوم " عصيب " أى شديد هوله وكربه.
وأصل العصب الشد والضغط، فكأن هذا اليوم لشدة وقعه على نفسه قد عصب به الشر والبلاء، أى شد به. قال صاحب تفسير التحرير والتنوير ومن بديع ترتيب هذه الجمل أنها جاءت على ترتيب حصولها فى الوجود، فإن أول ما يسبق إلى نفس الكاره للأمر أن يساء به ويتطلب المخلص منه، فإذا علم أنه لا مخلص له منه ضاق به ذرعاً. ثم يصدر تعبيراً عن المعانى يريح به نفسه ". - ثم بين - سبحانه - ما كان من قوم لوط - عليه السلام - عندما علموا بوجود هؤلاء الضيوف عنده فقال { وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ... } - ويهرعون - بضم الياء وفتح الراء على صيغة المبنى للمفعول - أى يدفع بعضهم بعضاً بشدة، كأن سائقاً يسوقهم إلى المكان الذى فيه لوط وضيوفه. يقال هُرع الرجل وأهرع - بالبناء للمفعول فيهما - إذا أعجل وأسرع لدافع يدفعه إلى ذلك. قال الآلوسى والعامة على قراءته مبنياً للمفعول، وقرأ جماعة يهرعون - بفتح الياء مع البناء للفاعل - من هرع - بفتح الهاء والراء - وأصله من الهرع وهو الدم الشديد السيلان، كأن بعضه يدفع بعضاً. أى وبعد أن علم قوم لوط بوجود هؤلاء الضيوف عند نبيهم، جاءوا إليه مسرعين يسوق بعضهم بعضاً إلى بيته من شدة الفرح، ومن قبل هذا المجئ، كان هؤلاء القوم الفجرة، يرتكبون السيئات الكثيرة، التى من أقبحها إتيانهم الرجال شهوة من دون النساء. وقد طوى القرآن الكريم ذكر الغرض الذى جاءوا من أجله، وأشار إليه بقوله { وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ } للإِشعار بأن تلك الفاحشة صارت عادة من العادات المتأصلة فى نفوسهم الشاذة، فلا يسعون إلا من أجل قضائها. ثم حكى القرآن بعد ذلك ما بادرهم به نبيهم بعد أن رأى هياجهم وتدافعهم نحو داره فقال { يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ... }... والمراد ببناته هنا زوجاتهم ونساؤهم اللائى يصلحن للزواج، وأضافهن إلى نفسه لأن كل نبى أب لأمته من حيث الشفقة وحسن التربية والتوجيه. قال ابن كثير قوله - تعالى - { يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ... } يرشدهم إلى نسائهم، فإن النبى للأمة بمنزلة الولد، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم، كما قال لهم فى آية أخرى{ أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَالَمِينَ. وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } قال مجاهد لم يكن بناته، ولكن كن من أمته، وكل نبى أبو أمته... وقال سعيد بن جبير يعنى نساؤهم، هن بناته وهو أب لهم... ومنهم من يرى أن المراد ببناته هنا بناته من صلبه، وأنه عرض عليهم الزواج بهن... ويضعف هذا الرأى أن لوطا - عليه السلام - كان له بنتان أو ثلاثة - كما جاء فى بعض الروايات - وعدد المتدافعين من قومه إلى بيته كان كثيراً، فكيف تكفيهم بنتان أو ثلاثة للزواج.
..؟ ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب، وقد رجحه الإِمام الرازى بأن قال ما ملخصه " وهذا القول عندى هو المختار، ويدل عليه وجوه. منها أنه قال { هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } وبناته اللاتى من صلبه لا تكفى للجمع العظيم، أما نساء أمته ففيهن كفاية للكل.. ومنها أنه صحت الرواية أنه كان له بنتان وهما " زنتا وزعورا، وإطلاق لفظ البنات على البنتين لا يجوز، لما ثبت أن أقل الجمع ثلاثة... ". والمعنى أن لوطا - عليه السلام - عندما رأى تدافعهم نحو بيته لارتكاب الفاحشة التى ما سبقهم بها من أحد من العالمين، قال لهم برجاء ورفق { يٰقَوْمِ } هؤلاء نساؤكم اللائى بمنزلة بناتى ارجعوا إليهن فاقضوا شهوتكم معهن فهن أطهر لكم نفساً وحسياً من التلوث برجس اللواط، وأفعل التفضيل هنا وهو { أطهر } ليس على بابه، بل هو للمبالغة فى الطهر. قال القرطبى وليس ألف أطهر للتفضيل، حتى يتوهم أن فى نكاح الرجال طهارة، بل هو كقولك الله أكبر - أى كبير -... ولم يكابر الله - تعالى - أحد حتى يكون الله - تعالى - أكبر منه... " ثم أضاف إلى هذا الإِرشاد لهم إرشاداً آخر فقال { فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي... } قال الجمل ولفظ الضيف فى الأصل مصدر، ثم أطلق على الطارق ليلاً إلى المضيف، ولذا يقع على المفرد والمذكر وضديهما بلفظ واحد، وقد يثنى فيقال ضيفان، ويجمع فيقال " أضياف وضيوف... ". وتخزون من الخزى وهو الإِهانة والمذلة. يقال خزى الرجل يخزى خزياً.... إذا وقع فى بلية فذل بذلك. أى بعد أن أرشدهم إلى نسائهم، أمرهم بتقوى الله ومراقبته، فقال لهم فاتقوا الله. ولا تجعلونى مخزياً مفضوحاً أمام ضيوفى بسبب اعتدائكم عليهم، فإن الاعتداء على الضيف كأنه اعتداء على المضيف. ويبدو أن لوطاً - عليه السلام - قد قال هذه الجملة ليلمس بها نخوتهم إن كان قد بقى فيهم بقية من نخوة، ولكنه لما رأى إصرارهم على فجورهم وبخهم بقوله { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } يهدى إلى الرشد والفضيلة. وينهى عن الباطل والرذيلة. فيقف إلى جانبى، ويصرفكم عن ضيوفى؟ ولكن هذا النصح الحكيم من لوط لهم لم يحرك قلوبهم الميتة الآسنة. ولا فطرتهم الشاذة المنكوسة. بل ردوا عليه بقولهم { قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ }. أى قال قوم لوط له بسفاهة ووقاحة لقد علمت يا لوط علما لا شك معه، أننا لا رغبة لنا فى النساء، لا عن طريق الزواج ولا عن أى طريق آخر، فالمراد بالحق هنا الرغبة والشهوة.
قال الشوكانى قوله { مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ } أى ما لنا فيهن من شهوة ولا حاجة، لأن من احتاج إلى شئ فكأنه حصل له فيه نوع حق، ومعنى ما نسبوه إليه من العلم أنه قد علم منهم المكالبة على إتيان الذكور وشدة الشهوة إليهم، فهم من هذه الحيثية كأنهم لا حاجة لهم إلى النساء. ويمكن أن يريدوا أنه لا حق لنا فى نكاحهن... " وقولهم { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } إشارة خبيثة منهم إلى العمل الخبيث الذى ألفوه، وهو إتيان الذكور دون النساء أى وإنك لتعلم علماً يقينيا الشئ الذى نريده فلماذا ترجعنا؟! وقولهم هذا الذى حكته الآية الكريمة عنهم، يدل دلالة واضحة على أنهم قد بلغوا النهاية فى الخبث والوقاحة وتبلد الشعور... لذا رد عليهم لوط - عليه السلام - رد اليائس من ارعوائهم عن غيهم، المتمنى لوجود قوة إلى جانبه تردعهم وتكف فجورهم... { قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ } والقوة ما يتقوى به الإِنسان على غيره. وآوى أى ألجأ وأنضوى تقول أويت إلى فلان فأنا آوى إليه أَوِيَّا أى انضممت إليه. والركن فى الأصل القطعة من البيت أو الجبل، والمراد به هنا الشخص القوى الذى يلجأ إليه غيره لينتصر به... ولو شرطية وجوابها محذوف، والتقدير قال لوط - عليه السلام - بعد أن رأى من قومه الاستمرار فى غيهم، ولم يقدر على دفعهم - على سبيل التفجع والتحسر لو أن معى قوة أدفعكم بها لبطشت بكم. ويجوز أن تكون لو للتمنى فلا تحتاج إلى جواب أى ليت معى قوة أستطيع بمناصرتها لى دفع شركم. وقوله { أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ } معطوف على ما قبله، أو ليتنى أستطيع أن أجد شخصاً قوياً من ذوى المنعة والسلطان أحتمى به منكم ومن تهديدكم لى... قالوا وإنما قال لوط - عليه السلام - ذلك لأنه كان غريباً عنهم، ولم يكن له نسب أو عشيرة فيهم. وهنا - وبعد أن بلغ الضيق بلوط ما بلغ - كشف له الملائكة عن حقيقتهم، وبشروه بما يدخل الطمأنينة على قلبه { قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ } أى إنا رسل ربك أرسلنا إليك لنخبرك بهلاكهم، فاطمئن فإنهم لن يصلوا إليك بسوء فى نفسك أو فينا. روى أن الملائكة لما رأوا ما لقيه لوط - عليه السلام - من الهم والكرب بسببهم قالوا له يا لوط إن ركنك لشديد... ثم ضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم، فارتدوا على أدبارهم يقولون النجاء، وإليه الإِشارة بقوله - تعالى - فى سورة القمر{ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ }
وقوله { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ } أى فاخرج من هذه القرية مصحوباً بالمؤمنين من أهلك فى جزء من الليل يكفى لابتعادك عن هؤلاء المجرمين. قال القرطبى قرئ " فاسر وفأسر بوصل الهمزة وقطعها لغتان فصيحتان. قال - تعالى -{ وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ } وقال{ سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ... } وقيل " فأسر " بالقطع تقال لمن سار من أول الليل... وسرى لمن سار فى آخره، ولا يقال فى النهار إلا سار... " وقوله { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ.... } معطوف على ما قبله وهو قوله { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ... }. أى فأسر بأهلك فى جزء من الليل، ولا يلتفت منكم أحد إلى ما وراءه، اتقاء لرؤية العذاب، { إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } يا لوط فاتركها ولا تأخذها معك لأنها كافرة خائنة، ولأنها سيصيبها العذاب الذى سينزل بهؤلاء المجرمين. فيهلكها معهم. قال الإِمام الرازى ما ملخصه قوله { إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو { إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب. قال الواحدى من نصب فقد جعلها مستثناة من الأهل، على معنى فأسر بأهلك إلا امرأتك أى فلا تأخذها معك... وأما الذين رفعوا فالتقدير ولا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم. روى عن قتادة أنه قال إنها كانت مع لوط حين خرج من القرية، " فلما سمعت العذاب التفتت وقالت واقوماه فأصابها حجر فأهلكها ". وقوله - سبحانه - { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } بشارة أخرى للوط - عليه السلام - الذى تمنى النصرة على قومه. أى إن موعد هلاك هؤلاء المجرمين يبتدئ من طلوع الفجر وينتهى مع طلوع الشمس، أليس الصبح بقريب من هذا الوقت الذى نحدثك فيه؟ قال - تعالى - فى سورة الحجر{ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ } أى وهم داخلون فى وقت الشروق. فكان ابتداء العذاب عند طلوع الصبح وانتهاؤه وقت الشروق. والجملة الكريمة { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ... } كالتعليل للأمر بالإِسراء بأهله بسرعة، أو جواب عما جاش بصدره من استعجاله العذاب لهؤلاء المجرمين. والاستفهام فى قوله - سبحانه - { أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } للتقرير أى بلى إنه لقريب. قال الآلوسى روى أنه - عليه السلام - سأل الملائكة عن موعد هلاك قومه فقالوا له موعدهم الصبح. فقال أريد أسرع من ذلك. فقالوا له أليس الصبح بقريب. ولعله إنما جعل ميقات هلاكهم الصبح لأنه وقت الدعة والراحة فيكون حلول العذاب حينئذ أفظع، ولأنه أنسب بكون ذلك عبرة للناظرين. ثم حكى - سبحانه - فى نهاية القصة ما حل بهؤلاء المجرمين من عذاب فقال { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ. مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ }. أى " فلما أمرنا " بإهلاك هؤلاء القوم المفسدين { جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا } أى جعلنا أعلى بيوتهم أسفلها، بأن قلبناها عليهم، وهى عقوبة مناسبة لجريمتهم حيث قلبوا فطرتهم، فأتوا الذكران من العالمين وتركوا ما خلق لهم ربهم من أزواجهم.
.. وقوله { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ } زيادة فى عقوبتهم ولعنهم. أى جعلنا أعلى قراهم أسفلها، وأمطرنا عليها حجارة { مِّن سِجِّيلٍ } أى من حجر وطين مختلط، قد تحجر وتصلب { مَّنْضُودٍ } أى متتابع فى النزول بدون انقطاع موضوع بعض على بعض، من النضد وهو وضع الأشياء بعضها إلى بعض. { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ } أى معلمة بعلامات من عند ربك لا يعلمها إلا هو، ومعدة إعداداً خاصاً لإِهلاك هؤلاء القوم. { وَمَا هِيَ } أى تلك القرى المهلكة { مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } وهم مشركو مكة { بِبَعِيدٍ } أى ببعيدة عنهم، بل هى قريبة منهم، ويمرون عليها فى أسفارهم إلى الشام. قال - تعالى -{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ. وَبِٱلَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أى وإنكم يا أهل مكة لتمرون على هؤلاء القوم المهلكين من قوم لوط فى وقت الصباح أى النهار، وتمرون عليهم بالليل أفلا تعقلون ذلك فتعتبروا وتتعظوا؟؟ ويجوز أن يكون الضمير فى قوله { وَمَا هِيَ } يعود إلى الحجارة التى أهلك الله بها هؤلاء القوم. أى وما هى تلك الحجارة الموصوفة بما ذكر من الظالمين ببعيد، بل هى حاضرة مهيئة بقدرة الله - تعالى - لإِهلاك الظالمين بها. والمراد بالظالمين ما يشمل قوم لوط، ويشمل كل من عصى الله وتجاوز حدوده، ولم يتبع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وهكذا كانت نهاية قوم لوط، فقد انطوت صفحتهم كما انطوت من قبلهم صفحات قوم نوح وهود وصالح - عليهم الصلاة والسلام -. هذا ومن العبر والأحكام التى نأخذها من هذه الآيات الكريمة، أنه لا بأس على المسلم من أن يستعين بغيره لنصرة الحق الذى يدعو إليه، ولخذلان الباطل الذى ينهى عنه. فلوط - عليه السلام - عندما رأى من قومه الإِصرار على غوايتهم ومفاسدهم تمنى لو كانت معه قوة تزجرهم وتردعهم وتمنعهم عن فسادهم. وقد علق الإِمام ابن حزم على ما جاء فى الحديث الشريف بشأن لوط - عليه السلام - فقال ما ملخصه وظن بعض الفرق أن ما جاء فى الحديث الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم - " رحم الله لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد " إنما هو من باب الإِنكار على لوط - عليه السلام - فى قوله { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ }. والحق أنه لا تخالف بين القولين، بل كلاهما حق، لأن لوطاً - عليه السلام - إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش.
من قرابة أو عشيرة أو أتباع مؤمنين، وما جهل قط لوط - عليه السلام - أنه يأوى من ربه - تعالى - إلى أمنع قوة، وأشد ركن. ولا جناح على لوط - عليه السلام - فى طلب قوة من الناس - فقد قال الله - تعالى -{ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ } وقد طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار نصرته حتى يبلغ كلام ربه، فكيف ينكر على لوط أمراً هو فعله؟!! تالله ما أنكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما أخبر أن لوطا كان يأوى إلى ركن شديد، يعنى من نصر الله له بالملائكة، ولم يكن لوط علم بأنهم ملائكة...
مجموعة الايات الثالثة :
بسم الله الرحمن الرحيم
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ
نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا
فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ
فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً
عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
[
القمر : 33 – 39 ]
التفسير :
وقصة لوط - عليه السلام - قد وردت فى سور متعددة، منها سورة الأعراف،
وهود، والشعراء، والنمل، والعنكبوت.. ولوط - عليه السلام - هو - على الراجح - ابن
أخى إبراهيم - عليه السلام -، وكان قد آمن به وهاجر معه إلى أرض الشام، فبعثه الله
- تعالى - إلى أهل سدوم. وهى قرية بوادى الأردن وكالوا يأتون الفواحش التى لم
يسبقهم إليها أحد.. وقوله - تعالى - { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِٱلنُّذُرِ } أى
كذبوا بالإِنذارات والتهديدات التى هددهم بها نبيهم لوط، إذا لم يستجيبوا
لإِرشاداته وأمره ونهيه.... فكانت نتيجة هذا التكذيب والفجور الذى انغمسوا فيه
الهلاك والدمار كما قال - تعالى - { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً... }.
والحاصب الريح التى تحصب، أى ترمى بالحصباء، وهى الحجارة الصغيرة التى تهلك من
تصيبه بأمر الله - تعالى -. فقوله { حَاصِباً } صفة لموصوف محذوف وهو الريح، وجىء
به مذكرا لكونه موصوفه وهو الريح فى تأويل العذاب، أى إنا أرسلنا إليهم عذابا
حاصبا أهلكهم.. والاستثناء فى قوله - سبحانه - { إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم
بِسَحَرٍ } استثناء متصل، لأنهم من قومه. والسحر هو الوقت الذى يختلط فيه سواد آخر
الليل، ببياض أول النهار وهو قبيل مطلع الفجر بقليل. أى إنا أرسلنا عليهم ريحا
شديدة ترميهم بالحصباء فتهلكهم، إلا آل لوط، وهم من آمن به من قومه، فقد نجيناهم
من هذا العذاب المهلك فى وقت السحر، فالباء فى قوله { بِسَحَرٍ } بمعنى " فى "
الظرفية. أو هى للملابسة، أى حال كونهم متلبسين بسحر. وقوله - تعالى - { نِّعْمَةً
مِّنْ عِندِنَا... } علة الإِيحاء، والنعمة بمعنى الإِنعام، أى انجينا آل لوط من
العذاب الذى نزل بقومه على سبيل الإِنعام الصادر من عندنا عليهم لا من عند غيرنا.
وقوله - تعالى - { كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ } بيان لسبب هذا الإِنعام
والإِيحاء.. أى مثل هذا الجزاء العظيم، المتمثل فى إيحائنا للمؤمنين من آل لوط وفى
إنعامنا عليهم.. نجازى كل شاكر لنا، ومستجيب لأمرنا ونهينا. فالآية الكريمة بشارة
للمؤمنين الشاكرين حتى يزدادوا من الطاعة لربهم، وتعريض بسوء مصير الكافرين الذين
لم يشكروا الله - تعالى - على نعمه. وفى قوله - تعالى - { مِّنْ عِندِنَا } تنويه
عظيم بهذا الإِنعام، لأنه صادر من عنده - تعالى - الذى لا تعد ولا تحصى نعمه. ثم
بين - سبحانه - الأسباب التى أدت بقوم لوط إلى الدمار والهلاك فقال { وَلَقَدْ
أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِٱلنُّذُرِ... }. والبطشة المرة من البطش،
بمعنى الأخذ بعنف وقوة، والمراد بها هنا الإِهلاك الشديد. والتمارى تفاعل من
المراء بمعنى الجدال، والمراد به هنا التكذيب والاستهزاء، ولذا عدى بالباء دون فى.
أى والله لقد أنذرهم لوط - عليه السلام - وخوفهم من عذابنا الشديد الذى لا يبقى ولا يذر، ولكنهم كذبوه واستهزءوا به، وبتهديده وبتخويفه إياهم. ثم يحكى - سبحانه - صورة أخرى من فجورهم فقال { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ }. والمراودة مقابلة، من راد فلان يرود، إذا جاء وذهب، لكى يصل إلى ما يريده من غيره عن طريق المحايلة والمخادعة. والمراد بضيفه ضيوفه من الملائكة الذين جاءوا إلى لوط - عليه السلام - لإِخباره بإهلاك قومه، وبأن موعدهم الصبح.. أى ووالله لقد حاول هؤلاء الكفرة الفجرة المرة بعد المرة، مع لوط - عليه السلام - أن يمكنهم من فعل الفاحشة مع ضيوفه.. فكانت نتيجة محاولاتهم القبيحة أن { طَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ } اى حجبناها عن النظر، فصاروا لا يرون شيئا أمامهم. قال القرطبى يروى أن جبريل - عليه السلام - ضربهم بجناحه فعموا، وقيل صارت أعينهم كسائر الوجه لا يرى لها شق. كما تطمس الريح الأعلام بما تسفى عليها من التراب. وقيل طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل. وعدى - سبحانه - فعل المراودة بعن. لتضمينه معنى الإِبعاد والدفع. أى حاولوا دفعه عن ضيوفه، ليتمكنوا منهم. وأسند المراودة إليهم جميعا لرضاهم عنها، بقطع النظر عمن قام بها. وقوله { فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } مقول لقول محذوف، أى طمسنا أعينهم وقلنا لهم ذوقوا عذابى الشديد الذى سينزل بكم، بسبب تكذيبكم لرسولى، واستخفافكم بما وجه إليكم من تخويف وإنذار. والمراد من هذا الأمر الخبر. أى فأذقتهم عذابى الذى أنذرهم به لوط - عليه السلام -. ثم بين - سبحانه - ما حل بهم من عذاب فقال { وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ... }. والبكرة أول النهار وهو وقت الصبح، وجىء بلفظ بكرة للإِشعار بتعجيل العذاب لهم، أى والله لقد نزل بهم عذابنا فى الوقت المبكر من الصباح نزولا دائما ثابتا مستقرا لا ينفك عنهم، ولا ينفكون عنه.. وقلنا لهم ذوقوا عذابى، وسوء عاقبة تكذيبكم لرسولى لوط - عليه السلام -. ثم ختم - سبحانه - قصتهم بما ختم به القصص السابقة فقال { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ }. قال صاحب الكشاف فإن قلت ما فائدة تكرير قوله { فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ }؟ قلت فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادكارا واتعاظا، وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه، وأن يقرع لهم العصا مرات، ويقعقع لهم الشن تارات لئلا يغلبهم السهو، ولا تستولى عليهم الغفلة، وهذا حكم التكرير، كقوله{ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } عند كل نعمة عدها فى سورة الرحمن. وكقوله{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } عند كل آية أوردها فى سورة المرسلات، وكذلك تكرير الأنباء والقصص فى أنفسها، لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب، مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية فى كل أوان...
مجموعة الايات الرابعة :
بسم الله الرحمن الرحيم
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ
مُّنكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ
بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ
أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ
أَنَّ دَابِرَ هَٰؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا
تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ
نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ
فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ
لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ (76) إِنَّ
فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ (77)
[
الحجر : 61 – 70 ]
التفسير :
قال الآلوسى وقوله - تعالى - { فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ } شروع فى بيان إهلاك المجرمين، وتنجية آل لوط. ووضع الظاهر موضع الضمير، للإِيذان بأن مجيئهم لتحقيق ما أرسلوا به من ذلك. والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف يفهم من السياق، والتقدير وخرج الملائكة من عند إبراهيم - بعد أن بشروه بغلامه، وبعد أن أخبروه بوجهتهم - فاتجهوا إلى المدينة التى يسكنها لوط - عليه السلام - وقومه. فلما دخلوا عليه قال لهم { إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ }. أى إنكم قوم غير معروفين لى، لأنى لم يسبق لى أن رأيتكم، ولا أدرى من أى الأقوام أنتم، ولا أعرف الغرض الذى من أجله أتيتم، وإن نفسى ليساورها الخوف والقلق من وجودكم عندى... ويبدو أن لوطاً - عليه السلام - قد قال لهم هذا الكلام بضيق نفس، لأنه يعرف شذوذ المجرمين من قومه، ويخشى أن يعلموا بوجود هؤلاء الضيوف أصحاب الوجوه الجميلة عنده، فيعتدوا عليهم دون أن يملك الدفاع عنهم... وقد صرح القرآن الكريم بهذا الضيق النفسى، الذى اعترى لوطا بسبب وجود هؤلاء الضيوف عنده، ومن ذلك قوله - تعالى -{ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } وقال - سبحانه - { فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ } مع أن المجئ كان للوط - عليه السلام - والخطاب كان معه، تشريفاً وتكريماً للمؤمنين من قوم لوط، فكأنهم كانوا حاضرين ومشاهدين لوجود الملائكة بينهم، ولما دار بينهم وبين لوط - عليه السلام -. وقوله - سبحانه - { قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ وَآتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ }. حكاية لما رد به الملائكة على لوط، لكى يزيلوا ضيقه بهم، وكراهيته لوجودهم عنده. وقوله { يمترون } من الامتراء، وهو الشك الذى يدفع الإِنسان إلى المجادلة المبنية على الأوهام لا على الحقائق. وهو - كما يقول الإِمام الفخر الرازى - مأخوذ من قول العرب " مريت الناقة والشاة إذا أردت حلبها، فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء، كاللبن الذى يجتذب عند الحلب. يقال قد مارى فلان فلانا، إذا جادله كأنه يستخرج غضبه ". أى قال الملائكة للوط لإِدخال الطمأنينة على نفسه يا لوط نحن ما جئنا لإِزعاجك أو إساءتك، وإنما جئناك بأمر كان المجرمون من قومك، يشكون فى وقوعه، وهو العذاب الذى كنت تحذرهم منه إذا ما استمروا فى كفرهم وفجورهم... وإنا ما أتيناك إلا بالأمر الثابت المحقق الذى لا مرية فيه ولا تردد، وهو إهلاك هؤلاء المجرمين من قومك، وإنا لصادقون فى كل ما قلناه لك، وأخبرناك به، فكن آمناً مطمئناً. فالإضراب فى قوله { قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ.
.. } إنما هو لإِزالة ما وقر فى قلب لوط - عليه السلام - تجاه الملائكة من وساوس وهواجس. فكأنهم قالوا له نحن ما جئناك بشئ تكرهه أو تخافه.. وإنما جئناك بما يسرك ويشفى غليلك من هؤلاء القوم المنكوسين. وعبر عن العذاب بقوله { بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } زيادة فى إدخال الأنس على نفسه وتحقيقاً لوقوع العذاب بهم. وقوله { وَأتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } تأكيد على تأكيد. وهذه التأكيدات المتعددة والمتنوعة تشعر بأن لوطا - عليه السلام - كان فى غاية الهم والكرب لمجئ الملائكة إليه بهذه الصورة التى تغرى المجرمين بهم دون أن يملك حمايتهم أو الدفاع عنهم. لذا كانت هذه التأكيدات من الملائكة له فى أسمى درجات البلاغة، حتى يزول خوفه، ويزداد اطمئنانه إليهم، قبل أن يخبروه بما أمرهم الله - تعالى - بإخباره به، وهو قوله - تعالى - { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ وَٱتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ }. قال القرطبى قوله { فأسر.. } قرئ فاسر وقرئ فأسر، بوصل الهمزة وقطعها لغتان فصيحتان. قال - تعالى -{ وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ.. } وقال{ سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً.. } وقيل فأسر تقال لمن سار من أول الليل.. وسرى لمن سار فى آخره، ولا يقال فى النهار إلا سار. وقوله { بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ.. } أى بجزء من الليل. والمراد به الجزء الأخير منه. أى قال الملائكة للوط - عليه السلام - بعد أن أزالوا خوفه منه يا لوط إنا نأمرك - بإذن الله تعالى - أن تخرج من هذه المدينة التى تسكنها مع قومك وأن يخرج معك أتباعك المؤمنون، وليكن خروجكم فى الجزء الأخير من الليل. وقوله { واتبع أدبارهم } أى وكن وراءهم لتطلع عليهم وعلى أحوالهم. قال الإِمام ابن كثير يذكر الله - تعالى - عن الملائكة أنهم أمروا لوطا أن يسرى بأهله بعد مضى جانب من الليل، وأن يكون لوط - عليه السلام - يمشى وراءهم ليكون أحفظ لهم. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى فى الغزاة يزجى الضعيف، ويحمل المنقطع. وقوله { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } أى ولا يلتفت منكم أحد أيها المؤمنون - خلفه، حتى لا يرى العذاب المروع النازل بالمجرمين. وإنما أمرهم - سبحانه - بعدم الالتفات إلى الخلف، لأن من عادة التارك لوطنه، أن يلتفت إليه عند مغادرته، كأنه يودعه. قال صاحب الكشاف فإن قلت ما معنى أمره باتباع أدبارهم ونهيهم عن الالتفات؟ قلت قد بعث الله الهلاك على قوم لوط، ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم وخرج مهاجرا فلم يكن له بد من الاجتهاد فى شكر الله، وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك، فأمر بأن يقدِّمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه، وليكون مطلعاً عليهم وعلى أحوالهم، فلا تفرط منهم التفاتة احتشاما منه ولا غيرها من الهفوات فى تلك الحال المهولة المحذورة، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب، وليكون مسيره مسير الهارب الذى يقدم سربه ويفوت به.
ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا له،
وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة، ويمضوا قدماً غير ملتفتين إلى ما وراءهم، كالذى
يتحسر على مفارقة وطنه... أو جعل النهى عن الالتفات، كناية عن مواصلة السير، وترك
التوانى والتوقف، لأن من يتلفت لا بد له فى ذلك من أدنى وقفة. وقوله { وَٱمْضُواْ
حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } إرشاد من الملائكة للوط - عليه السلام - إلى الجهة التى أمره
الله - تعالى - بالتوجه إليها. أى وامضوا فى سيركم إلى الجهة التى أمركم الله -
تعالى - بالسير إليها، مبتعدين عن ديار القوم المجرمين، تصحبكم رعاية الله
وحمايته. قيل أمروا بالتوجه إلى بلاد الشام، وقيل إلى الأردن، وقيل إلى مصر. ولم
يرد حديث صحيح يحدد الجهة التى أمروا بالتوجه إليها، ولكن الذى نعتقده أنهم ذهبوا
بأمر الله - تعالى - إلى مكان آخر، أهله لم يعملوا ما كان يعمله العادون من قوم
لوط - عليه السلام -. وقوله - سبحانه - { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ
أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } بيان لجانب آخر من جوانب الرعاية
والتكريم للوط - عليه السلام -. وعدى " قضينا " بإلى، لتضمنه معنى
أوحينا. والمراد بذلك الأمر إهلاك الكافرين من قوم لوط - عليه السلام -. وجملة {
أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } مفسرة ومبينة لذلك الأمر. وعبر
عن عذابهم وإهلاكهم بالإِبهام أولاً. ثم بالتفسير والتوضيح ثانياً، للإِشعار بأنه
عذاب هائل شديد. ودابرهم أى آخرهم الذى يدبرهم. يقال فلان دبر القوم يدبرهم دبورا
إذا كان آخرهم فى المجئ. والمراد أنهم استؤصلوا بالعذاب استئصالا. وقوله { مصبحين
} أى داخلين فى الصباح، مأخوذ من أصبح التامة، وصيغة أفعل تأتى للدخول فى الشئ،
نحو أنجد وأتهم، أى دخل فى بلاد نجد وفى بلاد تهامة، وهو حال من اسم الإِشارة
هؤلاء، والعامل فيه معنى الإِضافة. والمعنى وقضينا الأمر بإبادتهم، وأوحينا إلى
نبينا لوط - عليه السلام - أن آخر هؤلاء المجرمين مقطوع ومستأصل ومهلك مع دخول وقت
الصباح. وفى هذا التعبير ما فيه من الدلالة على أن العذاب سيمحقهم جميعاً، بحيث لا
يبقى منهم أحداً، لا من كبيرهم ولا من صغيرهم، ولا من أولهم ولا من آخرهم. ثم حكى
- سبحانه - ما حدث من القوم المجرمين، بعد أن تسامعوا بأن فى بيت لوط - عليه
السلام - شباناً فيهم جمال ووضاءة فقال - تعالى - { وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ
يَسْتَبْشِرُونَ }. والمراد بأهل المدينة أهل مدينة سدوم التى كان يسكنها لوط
وقومه.
ويستبشرون أى يبشر بعضهم بعضاً بأن هناك شباناً فى بيت لوط - عليه السلام -، من الاستبشار وهو إظهار الفرح والسرور. وهذا التعبير الذى صورته الآية الكريمة، يدل دلالة واضحة على أن القوم قد وصلوا إلى الدرك الأسفل من الانتكاس والشذوذ وانعدام الحياء... إنهم لا يأتون لارتكاب المنكر فرداً أو أفرادا، وإنما يأتون جميعاً - أهل المدينة - وفى فرح وسرور، وفى الجهر والعلانية، لا فى السر والخفاء... ولأى غرض يأتون؟ إنهم يأتون لارتكاب الفاحشة التى لم يسبقهم إليها أحد من العالمين. وهكذا النفوس عندما ترتكس وتنتكس، تصل فى مجاهرتها بإتيان الفواحش، إلى ما لم تصل إليه بعض الحيوانات... ويقف لوط - عليه السلام - أمام شذوذ قومه مغيظا مكروباً، يحاول أن يدفع عن ضيفه شرورهم، كما يحاول أن يحرك فيهم ذرة من الآدمية فيقول لهم { إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ }. وتفضحون من الفضح والفضيحة. يقال فضح فلان فلانا فضحا وفضيحة، إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار بسببه. أى قال لوط - عليه السلام - لمن جاءوا يهرعون إليه من قومه لارتكاب الفاحشة مع ضيوفه يا قوم إن هؤلاء الموجودين عندى ضيوفى الذين يلزمنى حمايتهم، فابتعدوا عن دارى وعودوا إلى دياركم، ولا تفضحون عندهم بتعرضكم لهم بالفاحشة فأهون فى نظرهم، لعجزى عن حمايتهم، وأنتم تعلمون أن كرامة الضيف جزء من كرامة مضيفه... وعبر لوط - عليه السلام - عن الملائكة بالضيف لأنه لم يكن قد علم أنهم ملائكة ولأنهم قد جاءوا إليه فى هيئة الآدميين. ثم أضاف لوط - عليه السلام - إلى رجاء قومه رجاء آخر، حيث ذكرهم بتقوى الله فقال { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ }. أى واتقوا الله وصونوا أنفسكم عن عذابه وغضبه، ولا تخزون مع ضيفى، وتذلونى وتهينونى أمامهم. يقال خَزِىَ الرجل يخزَى وخَزى، إذا وقع فى مصيبة فذل لذلك. ولكن هذه النصائح الحكيمة من لوط - عليه السلام - لقومه، لم تجد أذنا صاغية، بل قابلوها بسوء الأدب معه، وبالتطاول عليه، شأن الطغاة الفجرة { قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ }. والاستفهام للإِنكار. والواو للعطف على محذوف، والعالمين جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله - تعالى - والمراد بالعالمين هنا الرجال الذين كانوا يأتون معهم الفاحشة من دون النساء. أى قال قوم لوط له بوقاحة وسوء أدب. أو لم يسبق لنا يا لوط أننا نهيناك عن أن تحول بيننا وبين من نريد ارتكاب الفاحشة معه من الرجال، وإذا كان الأمر كذلك فكيف ساغ لك بعد هذا النهى أن تمنعنا عما نريده من ضيوفك وأنت تعلم ما نريده منهم؟ ولكن لوطا - عليه السلام - مع شناعة قولهم هذا، لم ييأس من محاولة منعهم عما يريدونه من ضيوفه، فأخذ يرشدهم إلى ما تدعو إليه الفطرة السليمة فقال { هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ }.
والمراد ببناته هنا زوجاتهم ونساؤهم اللائى يصلحن للزواج. وأضافهن إلى نفسه لأن كل نبى أب لأمته من حيث الشفقة والرعاية وحسن التربية. قال ابن كثير ما ملخصه يرشد لوطا - عليه السلام - قومه إلى نسائهم فإن النبى للأمة بمنزلة الوالد، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم، كما قال - تعالى - فى آية أخرى{ أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } وقيل المراد ببناته هنا بناته من صلبه، وأنه عرض عليهم الزواج بهن. ويضعف هذا الرأى أن لوطا - عليه السلام - كان له بنتان أو ثلاثة كما جاء فى بعض الروايات، وعدد المتدافعين من قومه إلى بيته كان كثيراً، كما يرشد إليه قوله - تعالى - { وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ } فكيف تكفيهم بنتان أو ثلاثة للزواج بهن؟ قال الإِمام الرازى فى ترجيح الرأى الأول ما ملخصه " وهذا القول عندى هو المختار، ويدل عليه وجوه منها أنه قال هؤلاء بناتى.. وبناته اللاتى من صلبه لا تكفى هذا الجمع العظيم، أما نساء أمته ففيهم كفاية للكل، ومنها أنه صحت الرواية أنه كان له بنتان وهما " زنتا وزاعورا " وإطلاق لفظ البنات على البنتين لا يجوز، لما ثبت أن أقل الجمع ثلاثة ". والمعنى أن لوطا - عليه السلام - لما رأى هيجان قومه، وإصرارهم على ارتكاب الفاحشة مع ضيوفه، قال لهم على سبيل الإِرشاد إلى ما يشبع الفطرة السليمة يا قوم هؤلاء نساؤكم اللاتى هن بمنزلة بناتى، فاقضوا معهن شهوتكم إن كنتم فاعلين لما أرشدكم إليه من توجيهات وآداب. وعبر بإن فى قوله { إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } لشكه فى استجابتهم لما يدعوهم إليه فكأنه يقول لهم إن كنتم فاعلين لما أطلبه منكم، وما أظنكم تفعلونه لانتكاس فطرتكم، وانقلاب أمزجتكم.. وجواب الشرط محذوف، أى إن كنتم فاعلين ما أرشدكم إليه فهو خير لكم. وقوله - سبحانه - { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } يرى جمهور المفسرين أنه كلام معترض بين أجزاء قصة لوط - عليه السلام - مع قومه، لبيان أن الموعظة لا تجدى مع القوم الغاوين، ولتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من سفهاء قومه. فالخطاب فيه للنبى صلى الله عليه وسلم واللام فى { لعمرك } لام القسم، والمقسم به حياته صلى الله عليه وسلم والعمر - بفتح العين - لغة فى العمر - بضمها، ومعناهما مدة حياة الإِنسان وبقائه فى هذه الدنيا، إلا أنهم ألزموا مفتوح العين فى القسم، وهو مبتدأ وخبره محذوف وجوبا والتقدير لعمرك قسمى أو يمبنى.
والسكرة ذهاب العقل، مأخوذة من السكر - بفتح السين وإسكان الكاف - وهو السد والإِغلاق. وأطلقت هنا على الغواية والضلالة لإِزالتهما الرشد والهداية عن عقل الإِنسان و { يعمهون } من العمه بمعنى التحير والتردد فى الأمر. وهو للبصيرة بمنزلة العمى للبصر. يقال عمه فلان - كفرح - عمها، إذا تردد وتحير، فهو عمه وعامه، وهم عمهون وعمه - كركع - والمعنى بحق حياتك - أيها الرسول الكريم - إن هؤلاء المكذبين لك، لفى غفلتهم وغوايتهم يترددون ويتحيرون، شأنهم فى ذلك شأن الضالين من قبلهم كقوم لوط وقوم شعيب وقوم صالح، وغيرهم من المتكبرين فى الأرض بغير الحق.. قال الآلوسى " وقوله { لعمرك } قسم من الله - تعالى - بعمر نبينا صلى الله عليه وسلم على ما عليه جمهور المفسرين. وأخرج البيهقى فى الدلائل، وأبو نعيم وابن مردويه وغيرهم عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال ما خلق الله - تعالى - وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعت الله - تعالى - أقسم بحياة أحد غيره، قال - تعالى - { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } وقيل هو قسم من الملائكة بعمر لوط - عليه السلام -، وهو مع مخالفته للمأثور محتاج لتقدير القول، أى. قالت الملائكة للوط - عليه السلام - لعمرك.. وهو خلاف الأصل وإن كان سياق القصة شاهداً له وقرينة عليه.. ". ثم ختم - سبحانه - القصة ببيان النهاية الأليمة لهؤلاء المفسدين من قوم لوط فقال - تعالى - { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ }. والصيحة من الصياح وهو الصوت الشديد. يقال صاح فلان إذا رفع صوته بشدة. وأصل ذلك تشقيق الصوت من قولهم انصاح الخشب أو الثوب، إذا انشق فسمع منه صوت. قالوا وكل شئ أهلك به قوم فهو صيحة وصاعقة. و { مشرقين } اسم فاعل من أشرقوا إذا دخلوا فى وقت شروق الشمس، أى أن الله - تعالى - بعد أن أخبر لوطا - عليه السلام - بإهلاك قومه، وأمره عن طريق الملائكة - بالخروج ومعه المؤمنون من هذه المدينة.. جاءت الصيحة الهائلة من السماء فأهلكتهم جميعاً وهم داخلون فى وقت شروق الشمس. وقال - سبحانه - قبل ذلك { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } وقال هنا { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ } للإِشارة إلى أن ابتداء عذابهم كان عند الصباح وانتهاءه باستئصال شأفتهم كان مع وقت الشروق. والضمير فى قوله { عاليها سافلها } يعود إلى المدينة التى كان يسكنها المجرمون من قوم لوط. أى فجعلنا بقدرتنا عالى هذه المدينة سافلها، بأن قلبناها قلباً كاملاً { وأمطرنا عليهم } أى على هؤلاء المجرمين من قوم لوط { حجارة } كائنة { من سجيل } أى من طين متحجر.
فهلكوا جميعاً. وهكذا أخذ الله - تعالى - هؤلاء المجرمين أخذ عزيز مقتدر، حيث أهلكهم بهذه العقوبة التى تتناسب مع جريمتهم، فهم قلبوا الأوضاع، فأتوا بفاحشة لم يسبقوا إليها، فانتقم الله - تعالى - منهم بهذه العقوبة التى جعلت أعلى مساكنهم أسفلها. ثم ساقت السورة الكريمة بعض العبر والعظات التى يهتدى بها العقلاء من قصتى إبراهيم ولوط - عليهما السلام - كما ساقت بعد ذلك جانباً من قصتى شعيب وصالح - عليهما السلام - فقال - تعالى - { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ... }.
فاسم الإِشارة فى قوله - سبحانه - { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِلْمُتَوَسِّمِينَ } يعود إلى ما تضمنته القصة السابقة من عبر وعظات. والآيات جمع
آية، والمراد بها هنا الأدلة والعلامات الدالة على ما يوصل إلى الحق والهداية.
والمتوسمون جمع المتوسم، وهو المتأمل فى الأسباب وعواقبها، وفى المقدمات
ونتائجها.. قال القرطبى ما ملخصه التوسم تفعل من الوسم، وهى العلامة التى يستدل
بها على مطلوب غيره. يقال توسمت فى فلان الخير، إذا رأيت ميسم ذلك فيه، ومنه قول
عبد الله ابن رواحة للنبى صلى الله عليه وسلم.
إنى توسمت فيك الخير أعرفه والله
يعلم أنى ثابت البصر |
|
وأصل التوسم التثبت والتفكر، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة فى
جلد البعير وغيره.. وذلك يكون بجودة القريحة، وحدة الخاطر، وصفاء الفكر، وتطهير
القلب من أدناس المعاصى. والمراد بالمتوسمين " المتفرسين، أو المتفكرين، أو
المعتبرين، أو المتبصرين.. والمعنى متقارب.. ". والمعنى إن فى ذلك الذى سقناه
فى قصتى إبراهيم ولوط - عليهما السلام - لأدلة واضحة على حسن عاقبة المؤمنين وسوء
عاقبة الغاوين، لمن كان ذا فكر سليم، وبصيرة نافذة تتأمل فى حقائق الأشياء، وتتعرف
على ما يوصلها إلى الهداية والطريق القويم. قال بعض العلماء عند تفسيره لهذه الآية
هذه الآية أصل فى الفراسة. أخرج الترمذى من حديث أبى سعيد مرفوعاً " اتقوا
فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " ثم قرأ صلى الله
عليه وسلم هذه الآية... وقد أجاد الكلام فى الفراسة، الراغب الأصفهانى فى كتابه
" الذريعة " حيث قال فى الباب السابع وأما الفراسة فالاستدلال بهيئة
الإِنسان وأشكاله وألوانه وأقواله، على أخلاقه وفضائله ورذائله... وقد نبه -
سبحانه - على صدقها بقوله { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } وبقوله{ تَعْرِفُهُم
بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً } وبقوله{ وَلَوْ
نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي
لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } ولفظها مأخوذ من قولهم " فرس السبع الشاه " فكأن الفراسة
اختلاف المعارف. وفى هذه الآية الكريمة تعريض لمن تمر عليهم العبر والعظات.
والأدلة الدالة على وحدانية الله - تعالى -، وكمال قدرته... فلا يعتبرون ولا
يتعظون ولا يتفكرون فيها، لانطماس بصيرتهم، واستيلاء الأهواء والشهوات على نفوسهم،
كما قال - تعالى
-{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ
عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ
إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ }