معجزة الرسول الكريم في تكثير الطعام - محمود شلبي
معجزة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم
في تكثير الطعام
طعام الواحد يكفي الاثنين ، وقد يكفي الأربعة في بعض الأحيان ، لكن أن يسدّ حاجة الجمع الغفير من الناس ، فذلك لا يكون إلا وجها من وجوه المعجزات الربانية ، التي أكرم الله بها نبيّه – صلى الله عليه وسلم - .
وقد تكرّرت هذه المعجزة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أماكن مختلفة، ومناسبات متعددة ، كان منها يوم الخندق ؛ حينما أطعم ألف نفر من شاة صغيرة وصاع من شعير، فقد جاء في الحديث المتفق عليه أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما رأى جوعاً شديداً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق إلى بيته، وأخرج جراباً فيه صاع من شعير، وذبح شاة، وجهز هو وزوجته طعاماً، ثم دعا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إليه، فلما رأى جابرٌ النبي - صلى الله عليه وسلم – وبصحبته أهل الخندق فزع من ذلك المشهد ، وذهبت به الظنون كل مذهب ، وقال في نفسه : كيف يمكن لهذا الطعام أن يكفي كل هذا الحشد ، فعلم النبي - صلى الله عليه وسلم – ما يدور في نفس جابر رضي الله عنه فأخبره بألا ينزل القدر، وألا يخبز الخبز، حتى يأتيه ويبارك فيه، ثم أكلوا جميعاً وشبعوا، والطعام كما هو.
وفي غزوة تبوك أخذ الجوع من الصحابة كل مأخذ ، فاستأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم – في نحر رواحلهم ، فطلب منهم أن يأتوه بفضل أزوادهم – أي ما بقي من أطعمتهم - ، فدعا فيه بالبركة، ثم قال: ( خذوا في أوعيتكم ) ، فأخذوا في أوعيتهم ، حتى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملؤوه، فأكلوا حتى شبعوا ، وحملوا ما بقي ، متفق عليه، وهذا لفظ مسلم .
ويوم الهجرة كان سبب إسلام أم معبد الخزاعية رضي الله عنها رؤيتها للنبي - صلى الله عليه وسلم – وهو يمسح على ضرع شاةٍ هزيلة كانت لديها ، فامتلأ الضرع لبناً ، فشرب منه النبي – صلى الله عليه وسلم – وسقى أبا بكر رضي الله عنه ، رواه الحاكم في المستدرك .
وحين شكى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم – من تحمّله ديون والده الذي استشهد يوم أحد ، وإلحاح الغرماء في طلب حقوقهم، جاء عليه الصلاة والسلام إلى بستانه، ودعا له بالبركة في ثمره ، فقضى جابر دين أبيه، وبقي زيادة، والحديث في البخاري .
وقد جاءت هذه المعجزة مكافأةً ربّانية لأحد الصحابة كان قد اقترض من النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً من الطعام ليقدّمه إلى ضيفه ، فظلّ يأكل منه زماناً هو وضيفه وهو على حاله لم ينقص منه شيء ، فلما وزنه بدأ بالتناقص ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما حدث فقال له : ( لو لم تكله لأكلتم منه ، ولقام لكم ) أي : لاستمرّ عطاؤه دون انقطاع ، رواه مسلم .
وتروي لنا عائشة رضي الله عنها ما يدلّ على بركة طعام النبي – صلى الله عليه وسلم – في حياته وبعد مماته فتقول : " توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبدٍ – تعني عدم وجود ما يصلح طعاماً - إلا شطر شعير في رفٍّ لي ، فأكلت منه حتى طال عليّ ، فكِلْتُه – أي : وزنته - ، ففني " متفق عليه .
وحينما استضاف أبو طلحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم – في بيته جاء عليه الصلاة والسلام ومعه سبعون أو ثمانون من أصحابه، فدعا في الطعام، ثم طلب منهم أن يدخل منهم العشرة ليأكلوا ثم يخرجوا ويأتي غيرهم ، حتى أكل الجميع وشبعوا من ذلك الطعام اليسير ، متفق عليه، واللفظ للبخاري .
ويروي عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفرٍ ومعه مائة وثلاثون رجلاً ، فقال لهم :: ( هل مع أحد منكم طعام ) فجاء أحدهم بصاعٍ من شعير فطبخه ، ثم اشترى النبي - صلى الله عليه وسلم - شاة وأمر بطبخها ، فأكل منها كل من كان حاضراً ، وبقي من الطعام شيء كثير ، متفق عليه.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أهديت له قصعة ثريد ، فظل الناس يأكلون منها يوماً كاملاً ، يقول سمرة رضي الله عنه : " ما كانت تمدّ إلا من ههنا " وأشار إلى السماء ، رواه أحمد .
وكان لأبي هريرة رضي الله عنه مع هذه المعجزة قصّة ، فقد اشتدّ به الجوع ذات يومٍ حتى اضطرّ إلى أن يربط على بطنه حجراً ، فقام يسأل أبابكر وعمر رضي الله عنهما ويحادثهما عسى أن يظفر منهما بدعوةٍ إلى طعام ، لكنّهما لم يدركا مقصوده ، فلما رآه النبي- صلى الله عليه وسلم – عرف ما به من جوعٍ ، فدعاه إلى وعاءٍ من لبنٍ ، لكنّ فرحة أبي هريرة رضي الله عنه لم تكتمل ، فقد أمره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يدعوا أهل الصفّة كلّهم ، فامتثل أبو هريرة رضي الله عنه للأمر النبوي وهو يظنّ أن مراده لن يتحقّق ، ولم يدر أنه سيكون شاهداً على إحدى معجزات النبي – صلى الله عليه وسلم - ، فقد شرب جميع من جاء من أهل الصفّة والوعاء على حاله لم ينقص ، ثم شرب منه أبو هريرة رضي الله عنه حتى لم يعد قادراً على الزيادة منه ، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم - آخرهم شرباً ، رواه البخاري .
وأعجب من ذلك، ما جاء في سنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه حيث قال : " أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمرات، فقلت يا رسول الله: ادع الله فيهن بالبركة، فضمهن، ثم دعا لي فيهن بالبركة، وقال: ( خذهن واجعلهن في مزودك هذا، أو في هذا المزود، كلما أردت أن تأخذ منه شيئاً، فأدخل فيه يدك، فخذه ولا تنثره نثرا ) ، ويذكر أبو هريرة رضي الله عنه أنه ظلّ يأكل من ذلك التمر زماناً طويلاً ، واستمرّ حتى يوم مقتل عثمان رضي الله عنه ، رواه الترمذي ، وحسنه الألباني .
والحاصل أن تكثير الطعام كان معجزة أيّد الله بها نبيه - صلى الله عليه وسلم -، شاهدها الناس، وعايشها أصحابه ، فكان لها أثرٌ كبير في دخول الناس في دين الله ، وتركت صدى عظيماً في نفوس المسلمين وأسهمت في زيادة إيمانهم وتعلقهم بربهم ، وحل مشكلاتهم وأزماتهم، فسبحان من لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء.
نص الحديث وسنده :
حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، - قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، - عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، - شَكَّ الأَعْمَشُ – قَالَ
لَمَّا كَانَ غَزْوَةُ تَبُوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَذِنْتَ لَنَا فَنَحَرْنَا نَوَاضِحَنَا فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " افْعَلُوا " . قَالَ فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ وَلَكِنِ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ ثُمَّ ادْعُ اللَّهَ لَهُمْ عَلَيْهَا بِالْبَرَكَةِ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذَلِكَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " نَعَمْ " . قَالَ فَدَعَا بِنِطَعٍ فَبَسَطَهُ ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ - قَالَ - فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ - قَالَ - وَيَجِيءُ الآخَرُ بَكَفِّ تَمْرٍ - قَالَ - وَيَجِيءُ الآخَرُ بِكِسْرَةٍ حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَىْءٌ يَسِيرٌ - قَالَ - فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ قَالَ " خُذُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ " . قَالَ فَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تَرَكُوا فِي الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلاَّ مَلأُوهُ - قَالَ - فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَفَضِلَتْ فَضْلَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ لاَ يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ " .
[ صحيح مسلم / الكتاب 1 ، حديث : 46 ]
وفي رواية للبخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (خَفَّتْ أزْوادُ (قلَّ طعام) الناسِ وأمْلَقوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في نَحْرِ إبلِهِم فأذِن لهم، فلَقيَهُم عُمَر فأخبَروه، فقال: ما بَقاؤكم بعدَ إبِلِكم؟! فدخل عُمَر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما بَقاؤُهم بعد إبلِهِم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نادِ في الناسِ يأتُون بفَضْل أزْوادِهم. فدعا وبَرَّك عليه (دعا بالبركة عليه)، ثم دعاهُم بأوعيَتهِم، فاحتَثَى الناس حتي فرغوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهَدُ أن لا إله إلا الله، وَأَنِّي رسولُ الله).
قال ابن حجر في فتح الباري: "وقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد إلى آخر الشهادتين (أشهد أن لا إله إلا الله وَأَنِّي رسول الله) أشار إلى أن ظهور المعجزة مما يؤيد الرسالة، وفي الحديث: حسن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته إلى ما يلتمس منه أصحابه..ومنقبة ظاهرة لعمر دالة على قوة يقينه بإجابة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى حسن نظره للمسلمين على أنه ليس في إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لهم على نحر إبلهم ما يتحتم أنهم يبقون بلا ظهر لاحتمال أن يبعث الله لهم ما يحملهم من غنيمة ونحوها، لكن أجاب عمر إلى ما أشار به لتعجيل المعجزة بالبركة التي حصلت في الطعام .. وفي حديث سلمة جواز المشورة على الإمام بالمصلحة وإن لم يتقدم منه الاستشارة".
وذكر ابن هبيرة في كتابه "الإفصاح عن معاني الصحاح" بعض فوائد وفقه هذا الموقف من غزوة تبوك فقال: "في هذا الحديث من الفقه: أنَّ نَحْر الظهر (ذبح الإبل التي يحمل عليها وتركب) عند اشتداد الضرورة جائز، لإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. وفيه أيضا: أن العدول عن ذلك لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع الأزواد والدعاء عليها أفضل. وفيه: جواز أن يشير على الإمام ذو الرأي والكلمة المسموعة من أصحابه كإشارة عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه أيضا: دليل على جواز الرجوع إلى قول الصاحب عن معاينة الأوْلى والأجدر، وترك العزم الأول. وفيه أيضا: من الفقه جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية أزواد القوم ليدعوا فيها بالبركة التي لا تخفى منها مكانها ولم ينكر لهم سؤال أطعمه. وفيه أيضا: دليل واضح على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، فإنه قد دلَّ هذا الحديث على أنه ملئ من ذلك القدر الطفيف كل مزادة في العسكر، وفضلت فضله حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله. وفيه أيضا: دليل على أنه يستحب تجديد الشهادة عند تجديد كل نعمة أو ظهور آية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن على شك من أنه لا إله إلا الله وأنه رسول الله، لأنه شهد بالوحدانية ولنفسه بالرسالة عند تجدد هذه النعمة. وفيه أيضا أن كل من لقي الله غير شاك في الكلمة لم يحجب عن الجنة".
وقال القاضي عياض: "وقد جمعنا مشهور أحاديث هذا الباب ومن رواه من الصحابة وحمله عنهم من التابعين فى باب معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم".
لقد شهدت غزوة تبوك العديد من المعجزات والدلائل النبوية التي أجراها الله عز وجل على يد نبيه صلى الله عليه وسلم تأييداً له، وإظهاراً لصدقه وبركته، وسرعة استجابة الله عز وجل لدعائه إذا دعاه في عظيم المطالب ومادونها، ومن ذلك تكثير الطعام القليل حتى كفى الآلاف من المسلمين، ومن ثم قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (أشهد أن لا إله إلا الله، وَأَنِّي رسول الله).
During the time of Tabuk expedition, the (provisions) ran short and the men (of the army) suffered starvation; they said: Messenger of Allah, would you permit us to slay our camels? We would eat them and use their fat. The Messenger of Allah (ﷺ) said: Do as you please. He (the narrator) said: Then 'Umar came there and said: Messenger of Allah, if you do that (if you give your consent and the men begin to slay their camels), the riding animals would become short. But (I would suggest you to) summon them along with the provisions left with them Then invoke Allah's blessings on them (different items of the provisions) It is hoped Allah shall bless them. The Messenger of Allah replied in the affirmative. (the narrator) said: He called for a leather mat to be used as a table cloth and spread it out. Then he called people along with the remaining portions of their provisions. He (the narrator) said: Someone was coming with handful of mote, another was coming with a handful of dates, still another was coming with a portion of bread, till small quantities of these things were collected on the table cloth. He (the narrator said): Then the messenger of Allah invoked blessing (on them) and said: Fill your utensils with these provisions. He (the narrator) said: They filled their vessel to the brim with them, and no one amongst the army (which comprised of 30,000 persons) was left even with a single empty vessel. He (the narrator) aid: They ate to their fill, and there was still a surplus. Upon this the Messenger of Allah (ﷺ) remarked: I bear testimony that there is no god but Allah and I am the messenger of Allah. The man who meets his Lord without harboring any doubt about these two (truths) would never be kept away from Paradise.
In- blook refernce : Book 1 , Hadith 46
The Miracle of Increasing and Blessing Food
1) روى البخاري في صحيحه عن أَنَس بْنَ مَالِكٍ رضى الله عنه قال:
قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ: (لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ).
قَالَتْ: (نَعَمْ)، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتْ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي وَلَاثَتْنِي بِبَعْضِهِ ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ (أنس): فَذَهَبْتُ بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ)، فَقُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: (بِطَعَامٍ)، فَقُلْتُ نَعَمْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ فَقَالَتْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفُتَّ وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا.
فهذه الحادثة من أعظم المعجزات، فها هي أقراص قليلة من شعير يحملها غلام تحت إبطه يطعم منها ثمانون رجلاً ويشبع كل واحدٍ منهم شبعًا لا مزيد عليه.
2) وقد شهدت غزوة الأحزاب حادثة مماثلة حيث كان المسلمون يعانون من الجوع وضيق ذات الحال.
روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:
إِنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ فَجَاءُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ فَقَالَ أَنَا نَازِلٌ ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ وَلَبِثْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَذُوقُ ذَوَاقًا فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِعْوَلَ فَضَرَبَ فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ أَوْ أَهْيَمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي إِلَى الْبَيْتِ فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ فَعِنْدَكِ شَيْءٌ قَالَتْ عِنْدِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ فَذَبَحَتْ الْعَنَاقَ وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي الْبُرْمَةِ ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالْعَجِينُ قَدْ انْكَسَرَ وَالْبُرْمَةُ بَيْنَ الْأَثَافِيِّ قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجَ فَقُلْتُ طُعَيِّمٌ لِي فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ قَالَ كَمْ هُوَ فَذَكَرْتُ لَهُ قَالَ كَثِيرٌ طَيِّبٌ قَالَ قُلْ لَهَا لَا تَنْزِعْ الْبُرْمَةَ وَلَا الْخُبْزَ مِنْ التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ فَقَالَ قُومُوا فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ وَيْحَكِ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ قَالَتْ هَلْ سَأَلَكَ قُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ ادْخُلُوا وَلَا تَضَاغَطُوا فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ وَيُخَمِّرُ الْبُرْمَةَ وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابِهِ ثُمَّ يَنْزِعُ فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ قَالَ كُلِي هَذَا وَأَهْدِي فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ.
فهذه قصة من دلائل نبوة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، فإن إطعام ألف رجل حتى يشبعوا بعد أن أنهكهم الجوع، ومكثوا أياماً دون طعام، وهم محاصرون في الخندق في برد شديد، ويعملون في حفر الخندق ونقل التراب، تكسير الصخور، إطعام هؤلاء جميعاً من عنز صغير، مع صاع واحد من شعير -وهذا طعام لا يكفي في العادة إلا نحو خمسة رجال-.
ثم إن هؤلاء الألف الذين أكلوا حتى شبعوا قد تركوا برمة اللحم كما هي، والعجين كما هو، لم ينقص منه شيء، فأي دليل على إثبات النبوة، وحدوث المعجزة أعظم من هذا؟ فهذا دليل حسي مرئي اطلع عليه هذا العدد العظيم من الناس، ولم يشاهدوا الآية فقط، بل أكلوا وشبعوا، فاشترك في إدراك هذه المعجزة كل الحواس، النظر، والسمع، واللمس، والذوق، والشم، وأدركوا كل ذلك بعقولهم وقلوبهم، وظهرت آثار بركة هذا في أعمالهم وأخلاقهم.
3) وقد تكررت معجزة تكثير الطعام أكثر من مرة بل بلغت عشرات المرات في ظروفٍ مختلفة ومناسباتٍ عديدة.
ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَأَرْمَلَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَاحْتَاجُوا إِلَى الطَّعَامِ فَاسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَحْرِ الْإِبِلِ فَأَذِنَ لَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فَجَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِبِلُهُمْ تَحْمِلُهُمْ وَتُبَلِّغُهُمْ عَدُوَّهُمْ يَنْحَرُونَهَا بَلْ ادْعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِغَبَرَاتِ الزَّادِ فَادْعُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا بِالْبَرَكَةِ قَالَ أَجَلْ قَالَ فَدَعَا بِغَبَرَاتِ الزَّادِ فَجَاءَ النَّاسُ بِمَا بَقِيَ مَعَهُمْ فَجَمَعَهُ ثُمَّ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ بِالْبَرَكَةِ وَدَعَا بِأَوْعِيَتِهِمْ فَمَلَأَهَا وَفَضَلَ فَضْلٌ كَثِيرٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمَا غَيْرَ شَاكٍّ دَخَلَ الْجَنَّةَ.
4) ومن الوقائع العجيبة والطريفة في هذا الأمر أن قدحًا صغيرًا من اللبن روى وأروى فئامًا من الناس، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
أَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْجُوعِ وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنْ الْجُوعِ وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمْ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْحَقْ وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لِي فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ قَالُوا أَهْدَاهُ لَكَ فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةُ قَالَ أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي قَالَ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ لَا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَلَى أَحَدٍ إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا فَسَاءَنِي ذَلِكَ فَقُلْتُ وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدٌّ فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنْ الْبَيْتِ قَالَ يَا أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خُذْ فَأَعْطِهِمْ قَالَ فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ أَبَا هِرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اقْعُدْ فَاشْرَبْ فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ فَقَالَ اشْرَبْ فَشَرِبْتُ فَمَا زَالَ يَقُولُ اشْرَبْ حَتَّى قُلْتُ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا قَالَ فَأَرِنِي فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ.
وهكذا تتجلى هذه المعجزة وهي آية النبوّة المحمدية، إذ قَدَحُ لبن لا يروي ولا يشبع جماعة من الناس كلهم جياع بحالٍ من الأحوال، فكيف أرواهم وأشبعهم؟ إنها المعجزة النبوية, وآية أخرى للكمال المحمدي أن يكون صلى الله عليه وسلم هو آخر من يشرب من ذلك القدح الذي شرب جماعة من الناس، وفي هذا إشارة واضحة إلى تواضع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
ولقد أدرك أبو هريرة رضى الله عنه ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فرغبت نفسه في نيل حظ منها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بتمرات فقال: يا رسول الله، ادع الله لي فيهن بالبركة، قال: فصَفّهن بين يديه، ثم دعا، فقال لي: ((اجعلهن في مِزْود [وعاء]، وأدخل يدك ولا تَنثُرْه)) قال: فحملت منه كذا وكذا وسْقاً في سبيل الله، ونأكل ونطعِم، وكان لا يفارق حقوي [أي معْقِدَ الإزار].
ثم يقول أبو هريرة: فلما قُتل عثمان رضي الله عنه انقطع المِزود عن حقويّ، فسقط.
وهذه معجزة باهرة حيث بقي أبو هريرة رضى الله عنه يأكل من الجراب زُهاء خمس وعشرين سنة، كل ذلك ببركة النبي صلى الله عليه وسلم.
5) وبعض بركة النبي صلى الله عليه وسلم استمر دهراً طويلاً بعد وفاته، ومن ذلك ما يحكيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ شَعِيرٍ، فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُمَا حَتَّى كَالَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ وَلَقَامَ لَكُمْ.
وروى مسلم أيضاً مثلَ هذا الخبر في قصة أم مالك، فعَنْ جَابِرٍ رضى الله عنه: "أَنَّ أُمَّ مَالِكٍ كَانَتْ تُهْدِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُكَّةٍ لَهَا سَمْنًا، فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا فَيَسْأَلُونَ الْأُدْمَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، فَتَعْمِدُ إِلَى الَّذِي كَانَتْ تُهْدِي فِيهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَجِدُ فِيهِ سَمْنًا، فَمَا زَالَ يُقِيمُ لَهَا أُدْمَ بَيْتِهَا حَتَّى عَصَرَتْهُ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (عَصَرْتِيهَا؟)، قَالَتْ: (نَعَمْ)، قَالَ: (لَوْ تَرَكْتِيهَا مَا زَالَ قَائِمًا)".
6) قال النووي في شرح صحيح مسلم: " قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو تركتيها ما زال قائماً)) أي موجوداً حاضراً"، ثم بيّنَ رحمه الله سبب فناء سمنِ العُكّة والشعير حين عُصِرت أو كِيل ، فقال: "الحكمة في ذلك أن عصرَها وكَيْلَه مضادةٌ للتسليم والتوكل على رزق الله تعالى, ويتضمن التدبيرَ, والأخذَ بالحول والقوة, وتكلُفَ الإحاطةِ بأسرار حِكم الله تعالى وفضله , فعوقب فاعِلُه بزواله"؛ أي كأنه خرج من التسليم لقدرة الله وعظيمِ فِعله، إلى الطمع في معرفة سبب أرضي ومادي له، فانقطع لذلك .